إن كنت تبحث عن مسكن الروح ، فأنت الروح، وإن كنت تبحث عن رغيف خبز، فأنت الخبز ، فإن أدركت هذه الفكرة الدقيقة فإنك بذلك تفهم حقيقة الوجود، انَ كل ما تبحث عنه هو "انت" ، لذلك فالعرب إمّا أمام معادلة الإستكبار أم الإستجهال ، وفي البعدين النتيجة هي نفسها .

فهزيمة العرب أتت من خلفية الإنكار، أنهم قوم مهزوم من الداخل : بالعقيدة والايديولوجيا المتصلة بثقافة التخلف والإنعزالية  التي تفتقر إلى معاني التسامح والمحبة بل إلى منطق الإلغاء والتكفير وتقظيم شأن المرأة دون الإعتراف على أنّها الجسد الذي يوصل العقل بالقلب والذي يعيق من فهم ذواتنا المقهورة والمعتقلة والتي تبحث عن ذبائح بديلة ، تفتش فيها عن محظورها المكبوت بوجه أصولي حيثُ يعيش نزعة انفصالية وانفصامية مع الوجود والأنا المبتورة عن جسمٍ قد اتُهم بالاستعمار والاستيطان .

والحقيقة أنّ هذا الشعب أرض بلا ذات ، وبالتالي فالحديث عن الصراع العربي - الصهيوني هو قناع ، يرفض العرب الاعتراف فيه : كحقيقة محجوبة بعناوين الجهل والطائفية والكراهية والمعادة المبنية على استراتيجية التفوق العسكري لا التفوق الذهني مستغفلين حقيقة مصيرية، أنّ اصلاح الأوطان يبدأ باصلاح العقول المستعبدة بسلاح الدين والعرض والأصول والقيم، التي هي بالأساس كلها محاور صراع تسقط مبادئ الفكر والديمقراطية والحرية بل تلغي إنسانية الإنسان، من خلال تعميم ثقافة العبد والسيد على أساس الحث ان العبد يخضع لسلطانه من أجل الحفاظ على حياته وبذلك يكون قد عزز هوية الاستجلاء بالرحمن للبقاء بينما السيد فهو يفضل الموت على الذل والعبودية .

من هنا فإن منطق العبودية  مستضعف ومستغل بأوجه العقيدة والدين والعادات المتنازعة والهويات القاتلة لأنّ أساس الحضارة والحداثة هو تحرير الإنسان من العبودية ، من هنا نرى أنظمتنا العربية انهزمت منذ عام 1948 و1967 و1975 وما رافقها من فشل في إحداث قومية عربية موحدة بسبب الخيانة واستغراق الشعوب بالسلطة وتوسيع  لإمبراطورياتهم على حساب شعوبهم والغرق بالفساد والإختلاس كما يحدث في لبنان الآن وزمن السلطنة العثمانية دون الاخذ بعين الاعتبار شعوبها ، فهذا هو الاستغراق بسياسة المقارنة والتكفير دون تفعيل العقل والمقارنة بما هو اجدى وانفع .

 سقطت العروبة والقوميات الهوية لأن البيت قد انقسم على ذاته لأسباب الهيمنة والمعاداة ، فلو فتشوا العرب عن مساحة حوار وتلاقي لما تصادموا وتصارعوا تحت عناوين تحررية وبعثية وماركسية وناصرية وقومية بل ساعدوا في ايجاد حلول جذرية لمشاكلهم ومعاناتهم وقلقهم المُبعثر من ضفاف النيل إلى الفرات ومن أفريقيا إلى المغرب العربي بصراعات قبائلية وعشائرية وأصوليات دينية واثنية وعرقية لا تنتهي .

والسؤال هل العالم العربي يستطيع تجاوز انقساماته الطائفية بتجاه مشروع علماني يحث الفرد على ان يكون مواطن حقيقي لا عبد ماجور ومستعبد بسيف الجهل المقدس؟؟

وهل يستطيع الانسان العربي الانتقال من مبدا الصراع الى حوار الحضارات ؟

يقول مالك بن نبي، في كتابه "شروط النهضة " إذا لم يتغير العرب، فأحوالهم هي التي ستغيرهم ، وهذا بالتحديد ما يجري اليوم في عالمنا الشرقي الملتهب والمُحتضر بصراعات بين لاهوت داعش وثورة الاصلاح والتنوير التي عاشتها اوروبا 1848 في حقباتها المظلمة وصراعها مع محاكم التفتيش واللاهوت المسيحي والكهنوتي ،  لكن السؤال يبقى هل يفتح المسلمون ابواب الاجتهاد والتقارب بين الديانات من خلال النقد الذاتي أم يكتفون بقول الإسلام هو الحل والتسليم أو تعتبر من المغضوب عليهم ؟؟؟

حقيقةً، الاشكالية ليست بصراع الحضارات ولا بالدين بل بالعقل العربي وثقافته المنطوية على ذاتها ومستشرسة بعقدة  اوديب والاساطير الوهمية المتغلغلة باغلال العادات التي تحمل كل اشكال المتناقضات الذاتية.

فهنا مثلٌ بسيط ، ماذا يحصل لو ساعد انسان قد نزل بارض قومٍ ولم يقل أنه غريب؟ ماذا يحدث لو لاح البرق من الشمال أو من الجنوب أو من الغرب او من الشرق، فالمسالة هي قضية البرق ولمحه وليس الاماكن والتراب ، اي البحث عن المعنى والوجود .

ان حقيقة الامة العربية، هي حقيقة خوف وعدم ثقة وقضية أسر واستعباد وجهل ، العلاقات البشرية قائمة على تبادل المصالح والمادة وليس الغرائز العاطفية التي تولد الكبت والحرمان والعبودية.

فالمسامحة مقدمة لعبور جسرالتلاقي والتراقي وهنا حقيقتنا، ومن هنا يبدأ تحديد المصير والإنتصار الفعلي حينها تسقط فلسفة ، أن اميركا هي امبراطورية العالم وان صراع الحضارات هو صراع تكافؤ وتلاقي وتحضُّر وحداثة وبذلك نكون قد تغلبنا على منطق صاموئيل وفوكوياما في فلسفتهم حول صراع الحضارات أنه بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، ستأخذ الصراعات شكل حروب ليس بين الدول التي لم تعد ذات شأن بعد العولمة الاميركية، بل بين الحضارات، ولا إمكان لحل هذه الصراعات الا من خلال الحرب التي ينتصر فيها فريق على آخر حيث يعتبر هنتنغتون أن الصراع الدموي حتمي بين الحضارات للأسباب التالية :

أولاً، ان انهيار الدول القومية - الوطنية في العالم الثالث، وخصوصاً في العالم العربي، لا يُبقي أمام هذه المجتمعات الا العودة الى تجمعات ما قبل الدولة الوطنية، أي الاثنية والطائفية.

ثانياً، يسمي هنتنغتون هذه التجمعات الاثنية والدينية بالحضارات التي لن تلبث أن تشتبك بحروب دموية فيما بينها خاصة ضمن نطاق دول أصبحت إدارتها المركزية ضعيفة، وهو لا يناقش فكرة أن تكون حضارة ما نتاجاً مشتركاً للعديد من الاثنيات والمذاهب كما هي الحال في سوريا واليمن والعراق ولبنان .

ثالثاً، دحض فكرة  برنارد لويس أن الدين الاسلامي يحارب الحضارة الغربية المرتكزة على الارث اليهودي – المسيحي .

لأن بذلك مغالطتين : الأولى «أن ارث الغرب يهودي- مسيحي»، اذ إن هذا الغرب المسيحي الكاثوليكي هو الذي حارب اليهودية لقرون طويلة ونبذ اليهود، لا بل طردهم مع المسلمين خارج اسبانيا رغم أن اليهود هم اسبان وكذلك المسلمون، بعد أن استقروا فيها لأجيال مديدة، وظلت أوروبا تضطهد اليهود حتى نهاية الحرب العالمية الثانية بناء على نظريات عنصرية لطالما زخر بها الارث الاوروبي.

والمغالطة الثانية هي في اعتبار أن الاسلام يحارب اليهودية والمسيحية ، ومن المؤكد أنه يعرف أن هذه ليست الحقيقة وأن الاسلام اعترف منذ البداية «بأهل الكتاب»، وبأن انبياءهم انبياؤه.

لا يستطيع المسلم أن يحارب اليهودية والمسيحية كحضارتين مختلفتين، لأن اسلامه مكمّل لهاتين الديانتين، أي أن الديانات التوحيدية الثلاث هي ضمن حضارة توحيدية واحدة نابعة من مركز جغرافي واحد ، ومن يريد التأكيد أنّ هذه الديانات في حالة حرب ليس الاسلام، بل مفكرون كهنتنغتون وبرنارد لويس لأن هذين المفكرين يريدان اظهار الصراع العربي - الاسرائيلي على أنه ديني المنشأ وهو في الحقيقة صراع وجودي لان كل الاديان قد تشابهت فلماذا هذا الفكر الاصولي ، فالادلة التاريخية تظهر عكس ذلك تماماً.

الحضارات بما فيها الثقافات والاديان لا حدود جغرافية لها، وهي انتقلت ولا تزال تنتقل، منذ بداية التاريخ بشكل سلمي وعبر التبادل التجاري وتواصل المجتمعات حيثُ لم تقم منطقة الهلال الخصيب بإعلان الحرب على أوروبا الوثنية باسم المسيحية التي انطلقت من فلسطين، بل إن المسيحية تسربت وانتشرت في اوروبا عبر التبشير، والدين ليس المظهر الوحيد للحضارة، فالعديد من الخصائص الحضارية كالعلوم والموسيقى والادب انتقلت الى الغرب وتبناها هذا الاخير بشكل طبيعي وأقبل عليها لأنها كانت متفوقة في المعرفة..

لذلك يبدو إذاً، أن هنتنغتون وضع نظريته بناءً على المسار التاريخي للحضارة الاميركية التي نقل اليها الاوروبيون جرثومة العنصرية فقامت على إفناء «الهنود الحمر»، واستعباد «السود» لاختلاف لون بشرتهم عن الرجل الابيض الذي يرمز لونه الى تفوقه الحضاري، ورفْض كل وجود ليس على شاكلتها، وبالتالي لا يستطيع هذا المفكر، أو لا يريد، تصور نموذج التمدد السلمي للحضارات كما عرفته العديد من الحقبات التاريخية مثل حضارة الاندلس حيث ساد جو التسامح وتنادل المعرفة (فلسفة  وفكر ورياضيات الصناعة التجارة) وايضاً حين بدأت حركة الاعتزال بالانتقال من طور الاجتهاد في الكلام إلى طور التفلسف ، ومن فلاسفة الأندلس ابن رشد ارسطو الغزالي ...

يعني المسألة مسألة ان هذا المجتمع الاندلسي تسامح وتبادل القيم والحضارة كما أيضاً من المؤسف أن نجد بعض المثقفين عندنا يمارسون التكفير الفكري فيرفضون أن نناقش أو نأخذ بمفاهيم تفيد مجتمعنا فقط لأنها كما يقولون «غربية».

 قد تمثّل هذه الافكار حلولاً لأوضاعنا الاجتماعية – السياسية ، إلاّ أنه يتم منعها من التداول ، أي منع حوار الحضارات ومنع تبادل الافكار، ما ينقل المجتمع الى «تكفير» حرية الفكر، ورفض استعمال المنطق والعقل لقبول أو دحض تلك المفاهيم ، فيلتقي هؤلاء المثقفون مع التيار السلفي التكفيري في منعنا من التطور والتقدم ..

من المهم الانتباه إلى ان الفكرة التي تنتقل ويقتبسها مجتمع ما تصبح ملكاً لهذا المجتمع ، الإسلام في اندونيسيا مثلاً هو ملك الأندونيسيين بعد تبنيهم لها ، لا ملك الجزيرة العربية ، كذلك تبني الغرب للمسيحية جعلها مسيحية تمثل الغرب لا فلسطين، وبالتالي القول بأننا لا نأخذ هذه الفكرة أو تلك لأنها «غربية» خطأ، والأصح مناقشة جدوى الفكرة وهل تفيد مجتمعنا في حال تطبيقنا لها، كما أن التطور عبر الزمان يرغمنا على إهمال أفكار وتبني أخرى تتلاءم مع التحولات الاجتماعية ، والّا لما كنا نأنف اليوم من ممارسات الدولة الاسلامية في قطع الرؤوس، لأنها طريقة اتبعها الشرق والغرب سابقا، لكن المجتمعات الحديثة لم تعد تتقبل هذا النوع من الاحكام..

لم يخجل الغرب من تبني النظم التي ابتكرناها في القرون الوسطى؛ أخذها وطورها وأصبحت جزءاً من تراثه الفكري القيم، ولم يحجم عن اقتباسها لأنها «مستوردة»، فنبذ الفكر يعني البقاء ليس في الفضاء الديني أو المشرقي بل الفناء في الجهل والتخلف ، لا يُبرز هذا الموقف الا ضعف المثقف العاجز عن مواجهة التحدي، فيلجأ الى التقوقع ضمن شرنقته الضيقة، لا بل يؤازر موقف السلفي التكفيري الذي هو أيضاً يمتنع عن الاجتهاد بحسب الزمان والمكان فيعلن الحرب على الفكر والعقل..

ومن اجل تثبيت هذا الكلام ، لقد لجأت الكنيسة الكاثوليكية كما تبلورت في القرون الوسطى الى سلاح التكفير والهرطقة للقضاء على كل من يخالف رأيها ، فعمّت محاكم التفتيش الدينية مدن أوروبا ، واعتبرت الكنيسة نفسها الوحيدة المخولة البحث في الشؤون الثقافية والعلمية ، فأرغمت غاليليو على القول ان الشمس تدور حول الأرض، كما حرّمت الحديث عن نظرية التطور واعتبرتها منافية للدين المسيحي الذي يؤمن بخلق العالم في سبعة أيام .

ولقد بقي رفض نظرية داروين سائداً في الكلية الانجيلية السورية  في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، من قبل المبشرين البروتستانت، وبخاصة من قبل رئيس الكلية آنذاك دانيال بلس الذي منع منعاً باتاً أي تداول لكتاب داروين في النشوء والارتقاء تحت طائلة الطرد ، لكن استطاع بعض الطلبة السوريون من الاطلاع على مضمونه خفية، فنتج من ذلك ثورة في المفاهيم قلبت المعايير التقليدية وبرزت أفكار جديدة عن تطور المجتمع وامكان تغييره .

ولم تتحرر المعارف في الغرب الا بإلغاء دور الكنيسة المهيمن على الفكر، وابعاد الدين عن كل ما يختص بالمعرفة الانسانية فمن الغريب أننا تبادلنا والغرب الادوار،  ففيما كنا متحررين في القرون الوسطى في النتاج الحضاري المبني على فصل العلم عن الدين، وازدهار المعرفة ، أخذ الغرب هذه الميزة منا وفقدناها نحن .

لذلك من المهم معرفة ان فصل الدين عن الدولة مهم لاستقواء الضعفاء بذواتهم على اساس انهم يستطيعون تثبيت قوتهم ويصححون انفسهم ولا يتناسخون الجوهر لان الجوهر واجب ان يكون محصن من الداخل لتبادل الافكار والازدهار .

اورنيللا سكر