توقع جنرال أميركي أن يشهد الشهر المقبل استعادة الحكومة العراقية مدينة الرمادي غرب العراق من أيدي "داعش"! هذا التوقع سبقته عشرات الوعود وعلى مدى أكثر من سنتين من استئناف التنظيم الإرهابي وثبته بعد سنوات من الهزائم التي ألحقتها به الصحوات السنية العراقية.

والحال أن العراق والعالم القريب والبعيد عاد هذه الأيام إلى التفكير بـ"داعش". بذاك "السر" الذي يعرفه الجميع، عن ولادة التنظيم وانقضاضه على مدن العراق وانتقاله إلى سوريا وتأسيسه "دولة الخلافة" على مساحة شاسعة من الصحراء تضم مُدنا وبوادي وحقول نفط ومساحات زراعية ومراعي وسبل عيش.

لا شيء أقدر من واقعة الموصل على تفسير "داعش". فسقوط المدينة بيد التنظيم في 2014، شكل انتقالة هائلة في واقع "دولة الخلافة"، وتحولا من حقيقة أن الجماعة تنظيم إرهابي إلى دولة و"خلافة".

والواقع أن الموصل لم تسقط بفعل خيانة ضباط المالكـــي وانسحابهم السهل، على رغم أنها كذلك. الأمر كـــان أعمق من خيانة، فـ2014 كان عام الحدث الذي بدأ التأسيس له أمام أعين الجميع منذ بدايات 2013. آنذاك ووصـولا إلى لحظة الانقضاض على المدينة في 9 حزيران/ يونيو 2014 صُفّي كل خصوم "داعش" من شيوخ عشائر ووجهاء وصحافيين وناشطين، وهم للمصادفة خصوم المالكي وحكومته آنذاك. وجرى ذلك تحت أنظار السلطة وليس بعيدا عن أنظار الأميركيين والإيرانيين، والأكـــراد الذيـــن كشف زعيمهم في أربيل مسعود بارزاني أنه عندما نبه المالكي إلى ما يجري في الموصل في 2013، أجابه الأخير: "عليك الاهتمام بإقليمك"!

لا يهدف هذا العرض إلى تبرئة البيئة التي تفشى فيها التنظيم من المسؤولية، ففي الوقائع التي سبقت احتلال الموصل حقائق حول دور لعشائر المدينة في تسليم السلطة لـ"داعش"، لكن هذه الحقائق تكشف أيضا مقدار التخلي الأميركي عن سنّة العراق وتركهم نهبا للتنظيم ولجماعات تكفيرية في محيطه، ناهيك عن قرار حكومي ضمني بنقل تمثيل السنة العراقيين من قوى قبلت بالعملية السياسية إلى الجماعات "الجهادية".

فـ"داعش" لم يأت بجديد على صعيد التركيبة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في تلك المناطق. فقط تعامل مع البنية التي رفض الأميركيون التعامل معها. سلم عشائر الجبور النفط وهو ما كانت تفعله هذه العشائر منذ حكم صدام حسين، وعشائر الشمر الحدود والمعابر، ولهذه العشائر خبرات على هذا الصعيد بسبب تواجدها على طرفي الحدود. واستثمر التنظيم في ضباط الجيش العراقي المنحل والذي تحول إلى جيش من العاطلين من العمل بعد القرار الأميركي الغبي بحل الجيش.

وكان أن تفشى "داعش" على نحو ما شهدنا منذ 2014 إلى اليوم، ولم تُلحق به هزيمة تذكر منذ ذلك الوقت باستثناء تقدم طفيف للأكراد على حدود إقليمهم، واستعادة مدينة تكريت غير الاستراتيجية وبكلفة بشرية هائلة كشفت خللا في كل مشاريع محاربة التنظيم.

إذا أراد المرء أن يُحصي الأحلاف التي نشأت لقتال "داعش" فسيخرج بنتيجة مذهلة. أحلاف أرضية وأخرى جوية وبحرية، وتحالفات تقودها جيوش لم يسبق أن التقت. التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة من الجو، والحشد الشعبي الذي تقوده إيران في المدن العراقية، والبيشمركة الكردية التي تقاتل على تخوم إقليم كردستان، وصولا إلى الجيوش" الروسية والإيرانية والسورية التي انعقدت قيادتها مؤخرا لفلاديمير بوتين. والغريب أن كل هذا لم يؤت أُكله حتى الآن، وها نحن اليوم وبعد كل هذا الوقت والجهد أمام توقع ركيك من المرجح أن لا يُصيب، بأن تستعيد الحكومة العراقية مدينة الرمادي في صحراء غرب العراق.

ثمة سؤال يواجهه المرء أينما ولى: هل هناك رغبة فعلية بإلحاق هزيمة بـ"داعش"؟ وأمام كل هذه الوقائع علينا أن نؤمن فعلا بأن لا رغبة لأحد في هزيمة التنظيم.

بالنسبة للأميركيين، "داعش" سبيلهم للتخلي عن المنطقة وعن حلفائهم التقليديين العرب تحديدا، وبالنسبة للروس تعتبر "دولة الخلافة" الدجاجة التي باضت ذهبا لنظامهم في دمشق، فلولاها لما كانت الطريق الدولية معبدة لموسكو كي تصل إلى دمشق. و"داعش" بالنسبة للإيرانيين عدو نموذجي كم تمنوا أن ينجحوا في تحويل أعدائهم إليه. وها هي طهران تكشف أن ما يعنيها من الحرب على "داعش" في العراق هو حماية المناطق الشيعية، وما عدا ذلك فإن التنظيم مشكلة السنّة وعليهم حلها.

فـ"داعش" عدو من خارج المذهب، ولا مشكلة معه طالما أن الحكومة العراقية بيدهم، وأن حدود "العراق الشيعي" مصونة. وكم يبدو جميلا أن تلقى أعداءك في هذا المأزق. تركيا أيضا اشترطت في بداية الحرب على "داعش" أن تتقاضى ثمنا لقاء "هذه الورقة"، وهو منطق ينطوي على رغبة بالاستثمار في التنظيم أيضا. وما عزز الشكوك حيال دور أنقرة في السنة الأولى من عمر التنظيم في سوريا، فتح الحدود أمام الراغبين بالالتحاق بـ"الجهاد".

اليوم خفض التحالف الدولي غاراته على مواقع "داعش" بنسبة 50 في المئة على ما قال ناطق باسمه. الغارات الروسية على التنظيم أقل من 20 في المئة من مجمل الغارات الروسية المنفذة في سوريا. والأتراك الذين بدأوا تلقـي طعنات التنظيم، يبدو أنهم مستمرون على اقتناعهم بأن القضاء على التنظيم يجب أن يكون لقاء ثمن واضح يتمثل برأس النظام السوري.

وما تكشفه خريطة المصالح هذه، غير انعدام الرغبة والمصلحة في هزيمة وشيكة للتنظيم، هو غياب مدوّ للعرب ولحسابات مصالحهم في غابة النوايا المتوحشة هذه، علما أن "داعش" في هذه الخريطة هي ممثلة غيابهم، أو هي الحضور البديل الذي يُستعاض به عن هذا الغياب. فما هو مُدان في خطاب هذه الحرب الكاذبة على التنظيم هو "البنية القابلة للعنف والتكفير"، وليس كل هذه الوقائع الهائلة التي مهدت لصعود هذا العنف ولتحوله دولة و"خلافة".

ربما كان على المرء أن ينظر من بعيد إلى طاولة المفاوضات الدولية في فيينا حول مستقبل سوريا، ليخلص إلى حقيقة أن الوقت لم يحن بعد للقضاء على "داعش"، وأن القضاء على التنظيم ليس مهمة أخلاقية يطرحها العالم نفسه.