العرض الظريف الذي قدمه الحراك المدني مساء الخميس في شوارع بيروت، أثار الحيرة: هل كان إختباراً للمجموعات المشاركة، ولدرجة التنسيق والتعاون في ما بينها؟ أم كان قياساً لردود فعل المواطنين الذين أطلوا من شرفاتهم على الشارع الممتد من المتحف الى عين المريسة، وهي مسافة طويلة لم يسبق لاي “معارضة” لبنانية أن غامرت بقطعها؟  لم يتضح حتى الان سبب إختيار المتحف بالذات كنقطة إنطلاق وعين المريسة كنقطة إفتراق، والابتعاد الى هذا الحد عن مراكز السلطة ومكاتبها..والسير وسط بيئة بيروتية لا تكن وداً للحراك وهي كانت ولا تزال تشتبه بدوافعه وتتحفظ على نواياه وبرامجه، مع انها الأشد تضرراً من السلطة وأسلوبها في تحويل العاصمة الى مكان يفقد يوما بعد يوم صلاحيته للسكن البشري اللائق. السير من المتحف برمزيته التاريخية، الى عين المريسة الخالية من أي رمز، يفرض معياراً جديداً للتقييم لا يعتمد على العدد المتواضع للمشاركين في المسير، ولا على تجذر الشعارات والهتافات، ولا طبعا على البيان الختامي الذي تلي عند خط النهاية، وكرر الرغبة في اعادة بناء السلطة كلها من الرئاسة الاولى الى الثانية الى الثالثة، وما تمثله من إستحالات معروفة..وإستثنى البلديات التي اكسبتها أزمة النفايات الحالية حيوية إستثنائية في جميع انحاء الجمهورية، وحولتها بالفعل الى مراكز لصنع قرارات واتخاذ مواقف مصيرية في نطاقها، وفرضت على معظمها الاتحاد لمواجهة المخاطر البيئية-السياسية.  البلديات التي يقترب موعد إنتخاباتها المقررة العام المقبل، يمكن ان تردم الهوة في خطاب الحراك بين الرغبة الملحة والمباشرة في معالجة أزمة النفايات وبين الحلم  البعيد بتغيير النظام ومؤسساته ورموزه، بل يرجح ان تصبح قاعدة بالغة الاهمية لعملية بناء الدولة المتعثرة، التي ظلت منذ الاستقلال وحتى اليوم تعتمد على البدء بقمة الهرم الظاهر للعيان، والضياع خلال التدرج نحو أسفله المبني على توازنات عائلية شديدة التخلف والخطورة.. لم ينجح أحد من الاحزاب السياسية التقليدية في تفكيكها، بل عمل البعض على ترسيخها.    اذا ما تحول إجراء الانتخابات البلدية في موعدها الى مطلب رئيسي للحراك، الذي يفترض انه مناهض لاي شكل من اشكال التمديد لمكونات السلطة، فان ذلك يكسبه بلا شك المزيد من الشرعية والواقعية، ويعزز مصداقيته بصفته تكتلاً يطمح الى دخول السياسة من بوابتها المدنية.. بدلاً من ان يتوهم قدرته على إستخدام هيئاته المتواضعة، وجماهيره الغاضبة على شاشات التلفزيون او الكومبيوتر او التلفون، في الضغط من أجل انتخاب رئيس للجمهورية او مجلس نيابي، وهو ما عجزت عنه قوى محلية واقليمية ودولية عظمى. بهذا المطلب فقط، يمكن ان يوضع لبنان على أعتاب ثورة حقيقية، تتحدى التقاليد العائلية، وتهز البنى السياسية السلطوية والحزبية التي كانت ولا تزال تخشى البلديات وتحسب لها ألف حساب، وتؤسس لحلول لامركزية ( او حتى فيدرالية لمَ لا؟) لمعضلات الكهرباء والمياه والنفايات التي آن الاوان للإعتراف بانها تفوق طاقة الدولة بتركيبتها الحالية على المواجهة. تلك هي الثورة الوحيدة التي يمكن ان يطلقها لبنان وجيله الشاب، الذي يتلمس دروب السياسة الوعرة، مستفيداً من إختلالات الذاكرة الوطنية الحافلة بالحروب الاهلية، ومن تراكمات الخوف الدائمة من ان تكون أي خطوة نحو التغيير “الوطني” هي وصفة لتجدد تلك الحروب، التي لا يزال البلد يدفع أثمانها الباهظة.    آن لذلك الجيل ان البلد يمكن ان يتآلف مع حراكه المدني الى حد يلامس الملل، وان السلطة قادرة على التعايش مع هذا النوع من الاحتجاج لأشهر بل ربما لسنوات طويلة، وان الجمهور على إستعداد للتعامل مع اولئك السائرين في الشوارع بوصفهم جماعة حالمة، تعجز حتى عن إجتراح حلول لأزمة النفايات التي باتت تحسم من رصيد الحراك أكثر مما تحسم من رصيد الحكومة.