المسؤولون في الجمهورية الإسلامية الإيرانية كانوا منذ تأسيسها يعملون لإقناع زوار طهران وخصوصاً القادمين من العالم العربي والإسلامي، بأن مشروعها الإيديولوجي – الديني – السياسي سينتصر، وبأنها تمتلك القدرات اللازمة لتحقيق ذلك، وبأنها في النهاية ستصبح دولة كبرى ليس في المنطقة فقط بل في العالم قادرة على استقطاب دول العالم الثالث المستضعفة، وعلى تكوين محور دولي منافس جدِّياً للولايات المتحدة الزعيمة الأحادية للعالم منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. وهؤلاء الزوار كان معظمهم يقتنع بما يسمعه أولاً لإيمانه بالإيديولوجيا الإيرانية نفسها. وثانياً لرؤيته بأمّ العين فشل أول تحدٍ إقليمي للنظام الإسلامي في إيران قام به عراق صدام حسين رغم الدعم الأميركي والعربي الواسع للأخير. وثالثاً لنجاح هذا النظام في وضع مشروع إقليمي طموح، وفي تنفيذ غالبيته. علماً أن التطورات العسكرية والعنفية التي تشهدها المنطقة منذ أواخر عام 2010 أثارت شكوكاً كثيرة مبرّرة في استكمال تنفيذه كما هو، واقتناعات عدة باحتمال الاستعاضة عنه بدور إقليمي مهم ولكن غير شامل. أما الزوار الموضوعيون فكانوا يرون الجهد المبذول على غير صعيد، لكنهم لم يصلوا إلى درجة الاقتناع بأن الأهداف الطموحة قابلة للتحقّق كلها.
ماذا عن زوار اليوم؟
زوار اليوم، وخصوصاً الذين منهم يتابعون من قرب الأوضاع في المنطقة وتطوراتها الصعبة والسياسات الدولية المتصارعة في دولها وعليها، فإنهم يخرجون باستنتاجات واقعية إلى حد بعيد عن تغييرات جدِّية وإيجابية حصلت في إيران. فهي أولاً أصبحت أكثر ارتياحاً وأكثر ثقة بنفسها نتيجة إنجازات تحققت، وليس فقط نتيجة إيمان مطلق بإيديولوجيا وبولاء الجماهير الإيرانية بل الإسلامية في العالم. من هذه الإنجازات الاتفاق النووي مع المجموعة الدولية 5+1 التي تُعتبر أميركا الدولة الأكثر أهمية وقدرة فيها سياسياً وعسكرياً وتكنولوجياً وإقتصادياً. فهو أدخلها نادي الدول النووية. ومن الإنجازات أيضاً انهماك إيران، ورغم أزماتها مع العالم والعقوبات الدولية والأوروبية والأميركية، في إعادة بناء مرافقها وبناها التحتية المدنية والاقتصادية وفي تأسيس قوة عسكرية مهمة جداً. ومَن يرَ طهران اليوم يشعر أنها عاصمة حديثة بمبانيها وشوارعها وساحاتها وفنادقها ومطاعمها وأنفاقها وجسورها. ولا يعني ذلك أنها حلَّت مشكلاتها الاقتصادية كلها، وقضت على الفقر والتخلُّف وخصوصاً في الأرياف، وأنهت التذمُّر من تخصيص أموال طائلة للخارج على حساب الداخل. ومن الإنجازات ثالثاً قيام دولة جدّية وحديثة. فمسؤولوها الكبار رجال دولة بكل معنى الكلمة، ويعملون بالتنسيق في ما بينهم حتى عند استقبال الزوار الأجانب والوفود السياسية والإعلامية والاقتصادية. علماً أنهم يستعملون أحياناً وقائع غير صحيحة عمداً لتأكيد سياستهم (قول هيلاري كلينتون إن أميركا خلقت "داعش"). والمرشد والولي الفقيه فيها السيد علي خامنئي فاجأ الكثيرين الذين ظنوا يوم خَلَفَ مُطلِق الثورة الإسلامية وجمهوريتها عام 1979 الإمام الخميني أنه سيكون عادياً أولاً لوجود من هم أكثر علماً وفقهاً منه وتالياً أكثر أهلية لاحتلال هذا الموقع. وثانياً لخوف من أن يصبح أسير العسكر من "حرس ثوري" وجيش نظامي جرّاء حاجته إليهم. علماً أن حاجتهم إليه قد تكون أكبر لأنه دستورياً وإيديولوجياً المرجع الأول وصاحب القرار النهائي في كل شيء. ذلك أنه أظهر حنكة عالية وحكمة وطول باع سياسي في التعاطي مع صعوبات الداخل ومشكلاته. فبتصرفه وسلوكه جعل الجمهورية الإسلامية ديموقراطية جزئياً باعتماده الانتخابات المنصوص عليها في الدستور، وبعدم استعماله أساليب غير قانونية (تزوير مباشر مثلاً) لمنع وصول مرشحين لا يرتاح إليهم إلى رئاسة الجمهورية أو مجلس النواب. علماً أنه ربما لم يمكِّنهم من تحقيق النجاحات التي كانوا يسعون إليها ومعهم الغالبية الشعبية. وأدى ذلك إلى نشوء نظام الحزبين أو بالأحرى التيارين الإصلاحي والمحافظ. طبعاً لن تكتمل هذه الديموقراطية إلا عندما تشمل الإيرانيين كلهم من إسلاميين وغير إسلاميين. وهذا ممكن لكن يلزمه وقت طويل.
ومن الإنجازات رابعاً بعض الرحرحة الاجتماعية غير المناقضة لإسلامية النظام، وممارسة المرأة دورها الكامل بوصفها نصف المجتمع.
كيف عالج المرشد والولي الفقيه الملف النووي والمواقف المتناقضة من الاتفاق مع الـ5+1 في الداخل الإيراني؟ وكيف سيعالج العلاقة مع أميركا؟ وهل تخلّى عن "المشروع الإيراني" الطموح الذي تلقّى ضربات موجعة جداً في السنوات الأخيرة هدَّدته جدِّياً؟