كلما إقتربت شمالاً ، كلما تجلى لك الواقع المرير الذي يرزح تحت نيره أغلب مواطني هذه المنطقة ، فطرابلس ليست وسط بيروت ولا الأشرفية ولا فردان ولم تنعم يوماً بتلك البرجوازية إلاّ ما قلّ ودل من سكانها ، كما أنّه لم تزرها العناية الثنائية الشيعية التي حلّت بالجنوب فأمنّت له ولشعبه نوعاً من الحصانة !

 

هذه المدينة ، والتي بسوادها الأعظم إما تعتاش على ما تجنيه من العرق اليومي ، لتكون الحالة (عالأد) ، أو تنتظر ذاك المعاش الشهري الذي تكدّست سلفاً عليه الديون ، قد حكمها الواقع الأمني والأحداث المتتالية والنزوح السوري الكثيف بعديد من الأزمات الإجتماعية .

 

فقر ، بطالة ، مخدرات ، إرهاب ، تطرف ، جميعها صفات ألحقت بطرابلس ، وتموضعت بها ، لنقول :

"طرابلس قبل 2005 لا تشبه التي كانت بعدها " ، إذ تحوّلت على مدى سنين لساحة حرب ، ولميدان التناحر  ، ولقلعة التهميش السياسي والترهيب الأمني تحت مسمى "الإرهابيين الإسلاميين" ؟

 

إلا أنّ طرابلس الفقيرة المتواضعة القنوعة ، كانت  لسنوات عديدة (قبل 2005)  "مدينة العلم والعلماء" إذ على تواضع إمكانية الساكنين وبالرغم من الظروف المعيشية الرثة تمكن ابناؤها ومن التعليم الرسمي من تحقيق ما لم يصل إليه خريجو المدارس والجامعات الخاصة ، فمع ما يعانيه القطاع التعليمي الرسمي من أزمات ، استطاعت هذه المدينة بكفاءة المعلمين وبضميرية المدراء وبإرادة الطلاب أن تجعل الغالبية الكبرى من شباب وبنات الشمال اصحاب شهادات !

 

غير أنّه ومع كل الأزمات المستجدة بعد 2005 ، تزعزع الواقع التعليمي الرسمي وبدأ بالإنحدار ، لتختلف النتائج عبر السنوات تدرجاً للاسوأ ولنصل لجيل قلة منه من حصد الشهادة المتوسطة "وبألف دفشة" ، ولمدارس تغيب عنها الكفاءة !

 

إلا أنّ ما أثار هذا الموضوع وما جعلنا نتجه لفتح هذا الملف هو ما منحنا إياه من معلومات الناشط الإجتماعي سالم العتري عن أطفال في باب الرمل يطردون من مدارسهم أو يتسربون للعمل في القبور ؟!

على إثر هذه المعلومات والتي تخطت الحالة الفردية إلى حالات تعددت وكثرت إتجهنا إلى باب الرمل ، وقبل العبور بين دهاليز هذه المنطقة التي يسيطر عليها الفقر المدقع إتجهنا لمختارها ورئيس رابطة المخاتير الحاج ربيع مراد للتوقف معه على أسباب الإنهيار التعليمي في باب الرمل خصوصاً وفي طرابلس عموماً ...

 

المختار أشار إلى الظروف الإجتماعية التي ذكرناها آنفاً ، إلا أنه اعتبر أنّ المشكلة الأساسية هي في المدرسة الرسمية وغياب دعمها ، حيث أنّ قانون مجانية التعليم لا يطبق فمن تكفل بتطبيق المجانية هذا العام كانت اليونيسيف وليست الدولة اللبنانية .

وأكد المختار أنّ في لبنان لا مجانية ولا إلزامية للتعليم ، متسائلاً من يراقب عمالة الأطفال والتي تصل لنسبة مرتفعة "وعلى عينك يا تاجر" ، مشيراً إلى أن القوانين لا تنفذ ولا آليات تعتمد ، وأضاف أن المجانية تعتمد لمرحلة معينة ( عأساس الفقير بعد المتوسط ببطل فقير ) .

 

وأضاف مختار باب الرمل أنّ المدارس الرسمية بشكل عام تواجه مشاكل عديدة من المحسوبيات ، للتعاقد ، للهدر ، لقدرات الأساتذة والذي لا بد من إخضاعهم لدورات دائمة ، وتساءل : إن كانت المدرسة تحقق نسب تثبت فشلها ، لماذا لا يحاسب المدير أو المعلمون ؟ فالأداء هو الذي يحكم ويقيّم عبر نسبة النجاح ...

 

ولفت المختار أنّ معظم أساتذة القطاع العام يعلمون أولادهم في المدارس الخاصة وعبر الحوافز التي تقدمها الدولة ، ليطرح جدلية ألا وهي كيف نثق بالقطاع التعليمي العام ومن هم قيّمون عليه يرسلون أبناءهم إلى الخاص ؟!

 

وعن الأسباب التي تؤدي إلى هذا الإنهيار فضلاً عن واقع التعليم المتردي ، إعتبر أن الوضع المالي للأهل يلعب الدور الأساسي إذ لا يملكون المقدرة لوضع أبنائهم في معاهد دعم خاصة أو فرز أستاذ خصوصي لتقويتهم ، هذا إضافة إلى عدم الوعي والحس بالمسؤولية عند العائلة نظراً للظرف الإجتماعي المحكوم أساساً بالجهل .

وأضاف المسؤولية متوزعة ، والأهل يتحملون الجزء الكبير من المسؤولية لأن هؤلاء الأطفال بالنتيجة أطفالهم ومصلحتهم يفترض أن تتصدر إهتمامهم ومتابعتهم ، معتبراً أنّ الفقر ليس بعيب ولكن طالما التعليم متاح واجبنا أن نتمسك به .

 

أما عن تأثير النزوح السوري على التعليم وتراجعه ، علّق قائلاً : "صحيح السوري ما أخد محل ابني بالمدرسة " ، ولكنه أخذ كل شيء العمل والدعم ، ونتيجة للإنعكاس السيء قامت اليونيسيف بالمساهمة هذا العام .

 

أما عن عدد المدارس في منطقة باب الرمل ، فتفاجأنا أنّ هذه المنطقة والحدادين تضم تسع مدارس رسمية ألا وهي : "طرابلس أولى الصبيان ، طرابلس أولى البنات ، الغزالي ، دوحة الأدب ، مدرسة تقدم للبنات ، ثانوية مواهب القسطة ، الفضيلة (صبيان) ، الفضيلة (بنات) ، الفيحاء " ...

أما عن سبب هذا الإنحدار ، فأشار إلى أن كل من مدرسة طرابلس الأولى صبيان ومدرسة الفضيلة بقسميها بنات وصبيان ومدرسة الغزالي ، تحقق نتائج مزرية في الشهادات "مزرية ، وهذا دليل الفشل الذريع  ، وفيما يتعلق  بوضع سائر المدارس في المنطقة فحسبما قال لنا ، فهي وإن كانت أفضل من المدارس الأربعة السابقة إلا أنّ مستواها دون الوسط ...

مستشهداً بمقولة يرددها أهل باب الرمل وهي : " اذا بدك تدمر ابنك حطوا بهالأربع مدارس"

 

ولحل هذه الأزمة ، أشار إلى أن هناك نقص بوعي الأهل وأن مجلس الأهل تبدل دوره ليتحول لأداة طيعة بيد الإدارة ، لينحاز عن مهمته الأساسية وهي متابعة العمل التعليمي وتهيئة صفوف تقوية للتلاميذ الضِعاف ...

وأضاف أنهم قد توجهوا لمتابعة هذا الشأن مع رئيسة المنطقة التربوية الأستاذة نهلا حمادي ، والتي أبدت تجاوباً كبيرتً ، كما أنّها أعطتهم وعوداً لتأمين الغطاء اللازم حتى يقوموا بمتابعة الأداء التربوي وتقييمه ، وأكد المختار أنهم يريدون التعاون مع المدراء والمعلمين والأهل لإعادة تطوير المدرسة الرسمية ...

 

وفيما يختص بحالات الطرد والتي تصدرت الواجهة لاسيما بعد طرد الطالب يحيى النبهان وتوجهه للعمل في حفر القبور  ، قال أنّ الطرد يستند إلى أسس قانونية ولكن هناك فرق بين نص القانون وبين روحيته ، إذ لو تواجد في المدارس مرشدين اجتماعيين ومساعدين نفسيين ، يتابعون الطلاب ويعملون على حل مشاكلهم لما وصل أحدهم إلى مرحلة الطرد ..

مضيفاً أنه على الإدارة قبل أن تطرد الطالب أن تسأل نفسها ، ماذا فعلت لأجله ؟ هل عرضته على متخصصين ؟ إذ أن المشاغب هو صاحب مشكلة نفسية تؤثر على نجاحه وأدائه ...

 

كما أشار إلى مشكلة أخرى وهي التفاوت بين أعمار الطلاب إذ لا بد من وضع مخطط تربوي لينال كل التلاميذ حقهم في التعليم بدون أن يتم التأثير سلباً على سائر الطلاب ، فالطالب الذي ترك المدرسة لعدة أعوام ويريد العودة لا يمكننا أن نقول له "لا" وأن ندعه يذهب إلى بيئة قد تجرّه إلى الأسوأ وبذات الوقت يصعب دمجه مع من هم يصغرونه سناً بكثير من السنوات ، لذا لا بد من طرح حلول تربوية كإعتماد آلية تعليم بدوام مسائي للطلاب المتخلفين لسنوات عدة والراغبين بمتابعة تعليمهم ...

 

وأضاف أنّ هناك ثغرة في هوية الدعم التي تؤمنها جهات عديدة إذ أنهم يدعمون صفوف الشهادات فيما الضعف التعليمي يبدأ في مراحل سابقة (منذ الصف الرابع) لذا لا بد من تأمين الدعم ابتداء من هذه المرحلة حتى يصل أكبر عدد من الطلاب إلى مراحل دراسية متقدمة .

 

أما عن يحيى النبهان (14 عاماُ) فقد عاد إلى مدرسته بعد الضجة الإعلامية التي أثيرت ، وإلى صفه الرابع ، غير أنّ المختار أكد لنا أنه يعاني مشاكل عدة بسبب الفرق الشاسع بينه وبين رفاقه وما يتعرض له من سخرية ( الطلاب بيندهوله جدو) ، إلا أنّ عزيمة يحيى تصرّ على تحدي الواقع ...

 

يحيى عاد ولكن محمد الشيخ تلميذ الصف الرابع ( 14 عاماً ) طرد الأسبوع الماضي من مدرسته لأنه مشاغب ليذهب ويعمل بالقبور ، وكذلك حسن الخولي ( 14 عاماً ) قد تم طرده هو الآخر منذ أربعة أيام من الصف الثالث ليحيا بين جدران أسرة مدمرة اجتماعياً !

 

 

من بعد ما أنهينا حوارنا مع المختار أردنا القيام بجولة بباب الرمل وقبورها ، وفي أثناء المرور استوقفتني عديد من المشاهدات ، أولها طفل لا يتخطى العاشرة يعمل في دهان السيارات ، وعندما سألت عنه علمت أنه ممن تركوا المدرسة ، غير أنّه وإن تمكننا من تصويره فقد رفض الحديث معنا .

 

 

المشاهدة الثانية لؤي "16 عاماً" يتيم الأب ويحيا في حالة مادية صعبة ، لا تعني له المدرسة الكثير  لأنه كبير على صفه فلم يجد لنفسه صنعة إلا تنظيف المقابر !

 

المشاهدة الثالثة ، هشام العتري "13 سنة " متسرب منذ سنتين ولم يتعلم أكثر من الصف الرابع ، هشام قال لنا وبكل صراحة " ما بدي مدرسة ، ما بحبا" وعند سؤاله عن السبب قال ( بدك الحقيقة طرابلس الأولى مدرسة مش منيحة هيدا بيسب المدير وهيدا ما بعرف شو "

 

هشام كان في مدرسة خاصة وهي ( روضة الفيحاء) هذه المدرسة التي تقدم أفضل مستوى تعليم في طرابلس ، نظراً لظروف خاصة اضطر أهله لنقله منها ليتابع تعليمه في مدرسة رسمية غير أنّ الواقع الرث لهذه المدارس دفعه لأن يكره التعليم ولأن يعمل في "كشك" فارغ نسبياً عند باب المقبرة !

بعد هذه المشاهدات اتجهنا للمقبرة ، بوابتها لا تغلق "ليل نهار مفتوحة " ، شباب يتجمهرون حول القبور ، أطفال يلعبون بينها تاركين مدارسهم وتعليمهم ، لتشهد هذه القبور العديد من الممارسات التي لا تشبه الطفولة والتي تزيد الفجوة الاجتماعية لجيل يتفشى به الجهل .

 

 

 

أما الصدمة الكبرى فهي أنّ ما بين القبور يضج ليلاً حسب ما أفادنا أحد الساكنين هناك ليشير لنا لأحد الشبان  هامساً  "شايفة هيدا الي هونيك ، هيدا شبيح المقبرة" !

 

لنتساءل هنا : في ظل غياب الوعي الأسري ، وفي واقع التعليم المتهالك ، ماذا أتوقع أنا من أطفال باب الرمل وهم الذي تسربوا من مدارسهم ؟

وماذا ستفعل المدارس الرسمية لإعادة دمج هؤلاء في المناخ التعليمي ...

 

ولأطرح حلاً فعالاً / فما بين نسبة التسرب العالية والتخلف عن عديد من سنوات الدراسة ، وما بين نسبة البطالة التي تسيطر على الخريجين ، يتمظهر الحل في إقامة مدارس مسائية تمنح الطلاب المتخلفين حقهم في التعليم من جهة وتحميهم من التشرد والإنحراف ، وتؤمن فرص العمل لعديد من الكفاءات التي تنتظر "الواسطة" أو "الفرج" ...

 

كما أنه المدارس الرسمية في لبنان تحتاج لإعادة تأهيل بنيوي ، ولرقابة مشددة ، ولا سيما في طرابلس التي لا يمتلك أهلها قسط المدارس الخاصة ( الخيالية ، خمسة ملايين للعام أقلّه) ، والتي تتطلب العديد من اللوازم المبالغة أسعارها والتي تسجل أضعاف السعر الحقيقي والمنطقي ، فالكتاب الواحد مثلاً (50$) ، وبيجاما الرياضة ما يقارب سعرها (40$) ،  كما لا يمتلك النسبة الأغلب من ساكني هذه المدينة كلفة دورات التقوية التي تعوَض الضعف الرسمي والتي تبدأ رسومها من 100$ شهرياً لترتفع صعوداً ... !

 

وبالنهاية ، أتوجه لنواب وفعاليات طرابلس بوضع يدهم مع المجتمع المدني ودعم الجهود ، فلا بد من إقفال باب مقبرة باب الرمل فعلياً وضمنياً حتى لا تتحوّل لمقبرة العلم والطفولة ، وحتى لا يولد بيننا "إرهابي" و "متطرف" و "محشش" و "سكير" !