«الحوار» في هذا البلد متاهة. ليس قليلاً أنّ «طاولة الحوار» كمؤسسة موازية للمؤسسات الدستورية في مرحلة ما بعد رحيل نظام الوصاية عمرها الآن تسع سنوات. ليس قليلاً أنها، عند قيامها، ذيّلت بسرعة كل الأمور الخلافية، على ما قيل لنا، إلا البند الخاص بالاستراتيجية الدفاعية، كما سميت، ثم جاءت حرب تموز. ليس نافلاً أنّ هذه الطاولة التي ربطت لسنوات بهذا «البند الوحيد المتبقي» عليها عادت واجتمعت كما هو الحال اليوم من دون أن يكون هذا البند في الصدارة.

لا بل إن موضوع الشغور الرئاسي نفسه يميل الى التراجع عن مداولاتها، ودرجة الاهتمامات الاستراتيجية فيها باتت تحصر في موضوع التعيينات أو الترقيات «الإرضائية». 

الحوار في البلد يبقى مع ذلك ضرورياً على كل المستويات، ومنها هذه الطاولة، ومنها غير ذلك من الطاولات. حتى ولو كان «حوار طرشان» فالأفضل حصوله من عدم حصوله. ليست الإشكالية هنا معرفة إذا كان الحوار الوطني هو «لتمييع القضايا» أو لترطيب الأجواء وتنفيس الاحتقان. فهو أعجز عن تمييع أي قضية وعن التنفيس الجدي لأي احتقان. هو أبعد ما يكون عن «تخدير» أحد في البلد. هو حوار يبعث على الملل، ويتابعه الناس بملل. ليس هناك انتظارات جدية حوله، وإن كانت «مائدته» هي أيضاً بورصة حظوظ لفتح ثغرة في الفراغ الدستوري، هذا في حال اكتراث العواصم المعنية بالشأن اللبناني بذلك. 

في الوقت نفسه، الجميع يعود في آخر اليوم ويقول «لا مناص من الحوار». وهذا صحيح، وهذه مشكلة أيضاً، مشكلة مزدوجة.

من ناحية، هناك افتقاد لجوهر العمل السياسي داخل المؤسسات الدستورية، وهو اتخاذ القرار في مدى زمني مقبول، فلا يكون الوقت لاتخاذه ارتجالياً أو ممتداً الى ما لا نهاية، ولا يكون القرار اعتباطياً أو مغامراً، لكنه يبقى قراراً، ففي النهاية لا مهرب من الاختيار بين القرار وعدمه. هذا الافتقاد لضرورة القرار في السياسة يترجم بتعطيل المؤسسات، بدءاً من تعطيل الساعة الدستورية لتجديدها، لكنه يشمل أيضاً إغراق زمن هذه المؤسسات بالحوار من أجل الحوار، وباقتضاء المتغلب الفئوي للتوافق التام حين يرى ذلك الأمر التعجيزي مناسباً له، والتفلت من أي إجماع وطني حين يرى ذلك ضرورياً لسلاحه، وشأنه. من هذه الجهة هناك إذاً تخمة أخذ وردّ تدور في حلقة مفرغة.

لكن من ناحية أخرى، هناك العكس. قلة من الحوار. ندرة. محدودية لما يتم تداوله نسبة لما ينبغي فتحه على مصراعيه من موضوعات تتعلق بسبل انتاج القواعد الأساسية للتفاهم بين اللبنانيين، القواعد التي يمكنها أن تفتح بالمجال لأن لا يكون كل معتدّ برأيه أو كل مؤمن بحيثيته عائقاً للاستقرار في البلد، أو لقيام مؤسساته الدستورية.

طاولة الحوار تعكس الجانب الأول من المعادلة حتى الآن: حياة سياسية تدور حول نفسها بسبب التعطيل والحوار حول التعطيل الذي يسجن نفسه بنفسه. الانتقال الى المستوى الثاني لا يستدعي «مؤتمراً تأسيسياً» بالشكل الذي يدعو اليه «حزب الله»، لا يستدعي «تأسيساً من عدم». لكنه يستدعي بكل تأكيد التفاهم الكامل بأن مرحلة من الزمان انقضت ومرحلة انتقالية طويلة الأمد انطلقت.