في الماضي كان الحاسوب صورة من نسج الخيال... ولعلّ جيل التسعينيات كان يحلم أن يحصل على حاسوبه الخاص "هدية التخرج"، اذ كان الأهل يرون وجوده كمالياً: الأساس كان تأمين المأكل والمشرب والملبس والعلم، وربّما "قطعة أرض"! واذا سألت الأهل عينهم بين التسعينيات واليوم عن ضرورة وجود الكمبيوتر في المنزل فسيجيبون حتماً: "صار أساسي"! فلماذا اختلف اذاً مفهوم "الحاجات الأساسية والكمالية"؟ واذا كانت الحجّة الأولى هي مواكبة العصر، فالواتساب هو "موضة العصر".

 

 

قيمت الكمبيوتر ليست فيه تحديداً، انّما باتصاله بالشبكة العنكبوتية ليصبح أطفالنا على تواصل مع المجتمع والعالم؛ كأن العالم صار "قرية كونية"، لكن نسينا أنّها "افتراضيّة"!

بالعودة الى هذه الحاجة، هي لم تعد تقتصر لا على البيت، ولا على الكمبيوتر. لقد تخطّت حدود المكان واحتلّت كلّ زمان وأصبح للآلة ألف شكل وشكل... المهم "الانترنت".

ابن العشر سنوات، بات يحمل هاتفه الخاص، وابن الخامسة يمتلك لوحة رقمية... والأهل، المتقلبون بين الرفض والقبول للتكنولوجيا، يبررون بالقول إنّه:"جيل واع"!

والتطبيقات التي تعنى بالمراسلة لا تحصى ولا تعدّ، الأكثر منها تحديثاتها! فهي لم تعد محصورة بالمراسلة بالكتابة، انّما دخل عنصر الصوت والصورة وحتّى الشريط المصوَّر... كلها مسخّرة لتخبر المرسل اليه بكلّ تفاصيل حياتك لحظة بلحظة و"بالوثائق".

وليس من الغريب ان يعرّف البعض هذا الجيل بانّه "جيل الواتساب" اذ يقضي المراهقون والشباب أوقات فراغهم أمام "هواتفهم الخاصّة"، لا بل أصبحوا يخصصون لها "أوقات فراغ" ويبدّونها على الصفوف وشرح المعلمين!

 

 

مع العلم بأن المعلوماتية واستخدام التكنولوجيا أصبحا مدرجين في البرامج التعليمية في المدارس الرسمية والخاصّة وإن بنسب متفاوتة، (فبعض المدارس الخاصّة، باتت تفرض امتلاك كل طالب للوحة رقمية خاصّة به بديلاً من العديد من الكتب)، الّا أنّ ظاهرة اجتياح الهواتف المحمولة للمدارس والصفوف، وعدم تمييز الطلاب بين الوقت المخصص للشرح وذاك المخصص للتكنولوجيا طرح تساؤلات كبيرة في أذهان الأساتذة والأهل بشأن آثارها على الطفل ذهنيا ونفسيا: فلماذا يبحث الأطفال عن الانتقال الى العالم الافتراضي علما بأن وجوده في المدرسة يؤمن له تواصلا واقعيا ومباشرا مع زملائه؟

 

الواتساب: إدمان وأذيّة

يرجع الاختصاصي في علم النفس العيادي الدكتور نبيل خوري فكرة استخدام الهواتف الذكية من الأطفال خلال الحصص الدراسيّة الى المزج بين "حبّ التواصل وحبّ مخالفة القوانين" لدى الأطفال، اذ يؤكّد انهم يحبون مخالفة القانون الذي يمنعهم من حمل هواتفهم في المدرسة، فيدمجونه مع حبهم في التواصل مع أصدقائهم ويضفي بذلك التلميذ "نفحة على حضوره المدرسي المكره والممتع في آن".

ويذكر خوري بأن انتشار تطبيق الواتساب يرجع الى كلفته المتدنية وسهولة استخدامه، ويرى أنّ تسمية هذا الجيل بـ"جيل الواتساب" ليست غريبة، "فالستينات "جيل الروك أند رول"، وجيل "الهارد روك" في السبعينيات و"جيل الانترنت" في أواخر الثمانينيات تبعه جيل الفيسبوك وها نحن وصلنا اليوم الى "جيل الواتساب"".

 

 

واستناداً الى دراسات عدة منها الدراسة التي أجرتها جامعة طوكيو بعنوان "time addiction screen" يؤّكد خوري أن الواتساب لا يسبب فقط ادماناً، انّما هو "ادمان وأذية". و"هذه الأذية من الناحية النفسية والذهنية قد توصل الطفل الى الهلوسة"، ويدعو الأهل والمدارس الى توعية الاطفال على مخاطر الافراط في استخدام الواتساب والتكنولوجيا على أنواعها.

وينصح خوري الأهل بأن يكونوا قدوة لأبنائهم، ويذكر بـ"ادمان النساء اللبنانيات مثلاً على لعبة candy cruchوبقاء الرجال لساعات طويلة امام شاشات الكمبيوتر".

ويذكّر خوري بمقولة أينشتاين أنّه اذا "وصلت التكنولوجيا الى العامّة نخشى ان نتحوّل جميعنا الى أغبياء"، لينبه الى مخاطر انتشارها الكثيف هذا، مضيفاً أنّ "الطفل ليس غبياً وقد يكون احياناً أكثر ذكاء من أستاذه"، فدعوة المدارس للتلامذة لاجراء البحوث من دون توجيه، ستدفع بالطفل الى دخول المواقع المرجوة، كما سيتمكن من دخول مواقع أخرى قد تؤذي صحته النفسية.

 

 

ولا يخفي خوري أنّ مشكلة إدمان الواتساب صعبة ولا حلول آنية وسريعة لها مؤكداً أنّ" السؤال حول امكان الردع صعب جدّاً لان التكنولوجيا ضيف ثقيل الظل دخل بيوتنا وغرف نومنا من غير استئذان". ويرى انّ الحلّ الأمثل هو في اعتماد المدارس نظاماً توعوياً للاطفال من عمر صغير، فهم كالعجينة أي إنّه من السهل اعطاؤهم الشكل المطلوب عبر التوعية، التي يصرّ خوري على أن تكون في بداية السنوات المدرسية وهي موجهة وهادفة الى اختيار الأوقات المناسبة لاستخدام الواتساب والتكنولوجيا على اختلافها بما لا يؤثّر سلبا على أدائهم ضمن العائلة والمدرسة.

ويدعم خوري مقولة "أن لا يمكننا العيش من دون انترنت"، وانّ عملية تنظيم استخدامه تحتاج إلى وقت، الّا أنّه يؤمن بأنّنا "عندما نوجد جيلاً قادراً على ضبط النفس، فعملية استخدام التكنولوجيا ستأخذ حتماً منحى ايجابيا".

 

 

كما يحذّر خوري الأهل من استخدام أسلوب حرمان الطفل من التكنولوجيات، كأن نأخذ منه هاتفه أو نمنعه من استخدام الحاسوب لأنّ هذه العملية تؤثّر سلبا على الطفل وتسبب له عقدة بأنّه لا يشبه أصدقاءه من هذه الناحية، وبأنه متخلف عن ركب الحضارة ومتابعة التطوّر، منبها الى أنّ الطفل قد يلجأ الى أساليب سريّة للتعويض ما يعود سلباً على صحته النفسية والفكرية.

 

 

الواتساب: "موضة اللبنانيي"

تدعم رومي ضرغام مدرّسة المسرح والمشرفة على تعليم الأطفال اللبنانيين للدروس الخصوصية في جمعية فرح العطاء من جهة، والمسؤولة في مدرسة اللاجئين السوريين التابعة للجمعية عينها في منطقة كفيفان-قضاء البترون من جهة أخرى رأي خوري، ولا توجّه اللوم الى الأطفال، انّما الى الأهل الذين لا يمارسون" الرقابة والتوجيه" على تصرفات أولادهم في ما يختصّ باستخدام التكنولوجيا، وامكان حملها، "فهم يهدونه هاتفا ويتركونه حرا في التصرف به بلا حسيب أو رقيب".

 

 

من ناحية ثانية، ترى ضرغام أن ادخال وسائل التكنولوجيا الى الصفوف منتشر بين الطلاب اللبنانيين أكثر منه بين السوريين الذين "يبحثون عن العلم فقط بعدما نسي بعضهم أشكال الحروف بسبب الحرب الدائرة في بلادهم منذ 5 سنين وأبعدتهم عن مقاعدهم الدراسية".

ولا تنفي أن بعض الأطفال السوريين الذين بلغوا الرابعة عشرة من العمر أو أكثر يملكون هواتفا ذكية الا انهم يلتزمون عدم حملها بناء على طلب الأساتذة "فهم لا يصطحبونها الى المدرسة"، وعن اللبناني تقول: "كثيرا ما أراه منشغلا في صفحته الخاصة بفايسبوك، فيما يحاول الأستاذ جاهداً إيصال الفكرة له".

وفي حين تؤكّد ضرغام أن لا قدرة للجمعية اليوم على ادخال التكنولوجيات الى مدرسة الأطفال للاجئين السوريين، لا تنكر المساعي لتأمينها، معتبرة أنّ تعرّف الطلبة عليها مهم "فبعضهم لا يعرف شيئا عنها و"ذلك يرجع الى مستواهم الاقتصادي" "انّما القراءة والكتابة هما الأساس".

كما تدعو ضرغام الى اعتماد "التكنولوجيا الموجهة": "علينا أن نعطي حصصا للطلاب نوجههم من خلالها على طرق البحث واساليبه، اضافة الى توعيتهم على سلبيات اللهو الدائم بالهواتف".

 

 

اليوم، ولتطمئنّ على صديقك، قد تعاتبه قائلاً: " صفحاتك لا جديد فيها"، في دلالة على غيابه عن العالم "الافتراضي".

فلكلّ لحظة "سلفي" خاصتها، ولكلّ "مشوار" check inوالنتيجة حال من الفخر أو الصدمة تبعا لعدد الـ "likes" التي يحصدها الـ post.

فأنت onlineاذاً أنت موجود!