هي تجربة دقائق. القلب فيها العنصر الجدل. لا دقات نابضة تسيّر عمله. الدماغ يقاوم. رفض فكرة الموت يجعل خلاياه تسرح في عالمٍ جديد لا يعرف البصر شيئاً عنه. أشبه بالحلم الذي يعكس حقيقة. تمرّ اللحظات بسرعة، يستفيق الانسان بعدها في حالٍ من عجب. أين ذهب؟ وكيف عاد؟ الرؤى التي عايشها جديدة، مختلفة عن واقع عالمه المحسوس. كلٌّ يروي بحسب التجربة. اللغز الكامن في هذه التجارب يتعدى حدود الاقاويل والأخبار. وراء سرّها نظريات علمية تقتل الشك. فما هي الحقيقة في ما يخاله كثيرون رحلةٌ الى عالمٍ آخر؟

 

 

وصل الى المستشفى ميتاً

 

يعتقد كثيرون ان حالات رؤية الصور خلال مرحلة الاحتضار بين الحياة والموت نادرة. الا انها كثيرة ومتكرّرة. الفرق يكمن في طريقة وصفها. اكثرية تعتبرها خرافة، لأن الآراء الشعبية تسردها وكأنها رحلة الى عالم ما بعد الحياة وتدخل في مضامين فلسفية عنوانها لغز ما بعد الموت. ما حصل مع سعيد كان تجربةً وضعته على شفير الموت. تسرد ابنته ما حصل معه: " تعرّض لأزمة قلبية حادة في المنزل نقل على اثرها الى المستشفى. دخلنا قسم الطوارئ فتبين حين وصلنا أن قلبه توقّف عن الخفقان. دقائق قليلة قضاها في عملية الانعاش ساهمت في اعادة تنشيط القلب ما جعلنا نصاب بمشاعر متناقضة بين الحزن والفرح ولا شك في انها كانت لحظات لا تنسى". المفارقة كانت حين استيقظ الأب حاملاً معه أخباراً لا تصدّق. تضيف: "قال حينها انه كان ذاهباً الى عالمٍ غريب حيث رأى ضوءاً قوياً مشعاً ومكاناً غريباً يسيطر فيه اللون الابيض، إضافةً الى ضوضاء وزحام. لم يستطع التأقلم حينها مع ما شاهد، بل بقي متأثراً بالحادثة اكثر من شهر ويروي للجميع ما حصل معه". وعن تعامل الناس مع هذه الحادثة، تقول: "كثيرون لم يصدّقوا واعتبروه يكذب، الا ان من شهد على عملية الاحتضار من اقارب اخذوا كلامه على محمل الجد، خصوصاً بعدما علموا ان قلبه توقّف عن النبض لدقائق". وحول اذا ما كانت تساءلت عن حقيقة ما حصل علمياً تجيب: " انفعال ابي حينها وتأثره بالواقعة، جعله يصدّق بوجود سر يكمن وراء الحياة وجعل افكارناً رهناً بتساؤلاته ايضاً. ما دفعنا الى ذلك تأثره العميق بالحادثة الذي جعله يسرح يومياً في افكاره، وكأن ما حصل قلب حياته بالكامل".

 

الدماغ حيّ

 

رغم التكهنات والتساؤلات، الا ان للعلم شرحاً منطقياً. نظرة علم_النفس الى موضوع الرؤى التي يراها الانسان المحتضر بين الحياة والموت جاءت بتفسيرٍ مفصّل، حيث يؤكّد الاستاذ الجامعي والموجّه النفسي، الدكتور فادي اليازجي، ان "فكرة بقاء الانسان على قيد الحياة بعد دقائق من توقف قلبه عن الخفقان ممكنة في حال استمرت خلايا الدماغ بالعمل، وهو في هذه الحالة لا يعتبر ميتاً. في هذه الاثناء ينتقل الشخص من مرحلة العقل الواعي الى مرحلة تشغيل العقل الباطني بنسبة 100%. كما يدخل في المرحلة الرابعة من النوم ما يخوّله رؤية الاحلام الباطنية. ويشرح ان "هذه العملية كفيلة بأن يرى صوراً معيّنة في مخيّلته كالضوء والذبذبات كما لو كان في سريره يحلم ويرى مشاهد معيّنة". وحول التأثير النفسي لهذه الواقعة على حياة الفرد بعد استعادة ادراكه وعودة حالة الوعي اليه، يقول: "بالطبع هذه التجربة ستغيّر حياة كل من يشهدها، لانه يكون متأرجحاً بين البقاء حياً او رحيله ما يجعله يختبر اصعب موقف في حياته وهو الموت. لذلك من المؤكّد انه سيبتعد عن مظاهر الانانية والتكبر والغرور، وسيتحلى بالتواضع والصدق وسيزيد ايمانه بالله وتعلّقه باصدقائه وعائلته".

 

مراكز دماغية متخصّصة

 

يشرح جرّاح الدماغ ومؤسس مركز اضطرابات_النوم في الشرق الاوسط، الدكتور الياس باشا، خبايا الصور التي تراود الانسان عند توقّف قلبه عن العمل: "هناك منطقة في الدماغ تركّز على وظائف معيّنة كالحواس مثلاً، فالمهمات تابعة لمراكز مختصّة تبلورها. من هذه المراكز، مركزٌ مخول بالاهتمام بالامور النفسية وبتصرّفات معيّنة. عندما يتوقّف القلب عن الخفقان الدورة الدموية لا تتوقّف، بل ان خلايا الجسم تبقى على قيد الحياة فليس كل شيءٍ يموت بين لحظة واخرى. في هذه الاثناء يتخلى الدماغ عن وظائفه الواعية بل يعمل عكسها فيتبادر الى ذهنه الصور والمخيلات". وفي مثالٍ توضيحي لتفسير هذه الحالة يسرد: "اذا قمنا بحجب النور عن عينينا سنتوقف عن الرؤية، الا اننا حين نطلق العنان للمخيّلة سنرى نجوماً رغم انها ليست موجودة. العملية شبيهة بما يحصل في الدماغ حيث رغم توقّف وعيه الا انه يقوم بوظيفة عكسية، لذلك يرى نوراً قوياً وتخيّلات باطنية". وحول التجارب التي اقيمت حول هذا الموضوع، يعتبر ان "تجارب جمّة حصلت كان محورها الدماغ الانساني، منها وضع تيار كهربائي الى جانب الدماغ وفق تواتر معيّن ورؤية ضوء قوي جداً". ويضيف: "بالطبع ان الانسان يكون على قيد الحياة خلال هذه المرحلة، لان الدماغ يبقى العنصر الاهم في جسم الانسان، وفي العلم لا وجود للتخمين والترجيح والاعتقاد، بل ان النظريات العلمية شبيهة باونصة الذهب التي لها وزنٌ دقيق، لذلك ان فرضيّة الموت في هذه الحالة غير صحيحة".

 

تبقى حالات توقّف القلب عن الخفقان تجارب مرهونة بمن عايشها، لكنها ليست رحلةً الى عالم آخر. هي مجرّد دقائق معدودة تفصل بين عودة الوعي الى الدماغ بعد السفر في خبايا الباطن. طائرة الصور الغريبة في طريقها الى الهبوط. مهما كانت انواع الرؤى وتفاصيلها، زبد القصة ان الحياة نعمةٌ كتب لها جزءٌ ثان من سنوات ولحظات. الحدث الاهم ليس الصور التي رسمها الدماغ. مفهوم الحياة يبقى الأسمى.