إثر الحملة التي يشنّها «حزب الله» على تيار «المستقبل» على خلفية الفساد ربطاً بالحراك القائم، وَجّهت كتلة «المستقبل» مَضبطة اتهام للحزب تضع حداً للمناخات التي تُبرّئ ساحته من تهمة الفساد. ولكنّ السؤال الذي طرح نفسه: لماذا تجاهَلَ الحزب هذه الاتهامات، خصوصاً أنها موجّهة من أكبر كتلة نيابية في لبنان؟ نجحت الماكينة الإعلامية لنظام المُمانعة طيلة حقبة نظام الوصاية وما بعده في تسجيل هدفين: تصوير أنّ تيار «المستقبل» فاسد، وإبعاد تهمة الفساد عن «حزب الله». والحملة على «المستقبل» بدأت من مشروع «سوليدير» وتصويره بأنه يشكّل سطواً على أملاك الناس وحقوقهم، وصولاً إلى تحميله كلفة الدين العام والهدر الذي رافق كل مرحلة الإعمار.

وعلى رغم الإيضاحات المتكررة والمُفنّدة بالأرقام، لم تتوقف هذه الحملة يوماً، بل كانت تستعِر وفق اللحظة وأجندة أصحابها، لتعود وتَخفت مجدداً. وفي هذا السياق يجدر التوقّف أمام أمرين:

الأمر الأوّل، مشروع القانون الذي تقدمت به حكومة الرئيس فؤاد السنيورة عام ٢٠٠٦ لإخضاع حسابات الإدارات العامة والمؤسسات العامة والبلديات واتحاد البلديات والمَرافق العامة التابعة للدولة لإجراءات التدقيق والمراجعة وفقاً للقواعد الدولية للتدقيق، وذلك منذ اتفاق الطائف وحتى اليوم، وحينها ليتحمّل كل من تَورّط بالتطاول على أموال اللبنانيين مسؤوليته الكاملة أمام الشعب اللبناني.

فأهمية هذا المشروع انه يدلّ على جانبَين: انّ «المستقبل» لديه كامل الثقة بأدائه وعلى استعداد للذهاب حتى النهاية في هذه المسألة، واضعاً مُنتقديه في قفص الاتهام. والجانب الثاني انّ اتهامات فريق المُمانعة هي عشوائية وهوائية ولا تستند إلى أيّ معايير علمية، لأنه في اللحظة التي دعاهم فيها إلى المواجهة القضائية لاذوا بالفرار، بدلاً من إظهار انّ ما يملكونه من اتهامات هي مُثبتة وموثّقة.

الأمر الثاني، التأكيد في كل محطة ومناسبة انّ مشروع إعمار وسط بيروت لم يكن في أي وقت من الأوقات مشروعاً اقتصادياً بذاته فقط، بل هو مشروط وطني جاء لتوحيد العاصمة التي قسّمتها الحرب، كما التذكير انّ هذا المشروع حفظ لأصحاب الحقوق في وسط العاصمة حصة تُعادِل ثُلثي قيمة المشروع وللمساهمين الجُدد ثلث هذه القيمة، علماً انّ أحداً من المنتقدين لم يقدّم يوماً أيّ مشروع بديل.

وسط بيروت

فما تحقّق في وسط بيروت هو إنجاز تاريخي أثار إعجاب معظم دول العالم وأعاد لبنان إلى الخريطة الدولية، وانّ البديل الوحيد كان إبقاء الخراب قائماً، فيما دَلّ هذا الإنجاز على حقد مزدوج: حقد على الشهيد رفيق الحريري لأنه نجح في نزع رداء الحرب عن بيروت في الوقت الذي كان يعمل فيه النظام السوري على إبقاء عوامل الحرب في الحجر والنفوس. وحقد على وجه العاصمة ودورها، لأنّ عودة بيروت تُمهّد لعودة لبنان، فيما المطلوب إبقاء لبنان فاقداً للدور والإرادة.

والرئيس السنيورة في مشروعه لم يتردد في الدعوة إلى محاكمة كل المرحلة التي تَلت اتفاق الطائف، لأنّ تحميل فريق بعَينه المسؤولية وتَنصّل القوى الأخرى التي كانت شريكة في السلطتين التشريعية والتنفيذية أمر غير مقبول على الإطلاق، فضلاً عن أنّ المال السياسي، على مساوئه، شَكّل وسيلة أساسية للعبور إلى الإعمار، لأنّ قوى الأمر الواقع، وفي طليعتها النظام السوري، كانت تعرقل الحريري عن سابق تصوّر وتصميم من أجل ان تفرض الخُوّة على كل مشروع في ظلّ تغييب هذا النظام للدولة اللبنانية ومؤسساتها القضائية والرقابية.

وزر مرحلة «الطائف»

إنّ تحميل «المستقبل» وحده وزر المرحلة الناتجة عن اتفاق الطائف لا يخرج عن سياق تحميل «القوات اللبنانية» وحدها مرحلة الحرب اللبنانية في استنسابية مكشوفة، وعملية تشويه للتاريخ والحقائق فاضحة. فإمّا أن تُفتح ملفات الحرب كلها، وإمّا أن تُقفل إلى الأبد.

وإمّا أن تخضع كل مرحلة ما بعد اتفاق الطائف لمراجعة وتدقيق، وإمّا أن تُقفل إلى الأبد. فالشهيد الحريري لم يكن الآمر الناهي كما يحاول فريق الممانعة تصويره، بل كان مقيّداً أوّلاً بالشق الاقتصادي، لأنّ الشق الأمني من اختصاص «حزب الله». ولكن حتى في الجانب الاقتصادي لم يكن مُطلق اليدين، حيث كان النظام السوري يعمل على عرقلته داخل الحكومة ومجلس النواب بُغية ابتزازه ودفعه إلى تقديم التنازلات.

فهذه المتاجرة الموسمية الرخيصة غير مقبولة، خصوصاً أنها ترمي الى تحقيق هدفين أساسيين: الهدف الأول إبقاء «المستقبل» في دائرة الاتهام بغية إضعافه وشَلّه، والهدف الثاني التَلطّي وراء شعار مكافحة الفساد بحملات إعلامية من هذا النوع لإثارة الغبار السياسي، خصوصاً أنّ القوى التي تَقِف خلف هذه الحملات هي أبعد ما يكون عن الإصلاح.

وفي هذا السياق هناك تعويل على الحراك في الشارع شرط أن ينجح بتركيز أهدافه على الجانب المطلبي، لأنّ ثمّة سيلاً من الملاحظات على هذا الحراك، تبدأ من عدم واقعيته وتَوسّله العنف ورفضه اعتماد الحلول المنطقية وآخرها خطة شهيّب للنفايات، وصولاً إلى رفعه شعارات سياسية تثير الريبة والنقزة من قبيل إسقاط النظام أو احتلال المرافق العامة بحجّة انها أملاك الشعب، وآخرها اقتحام مجموعة يسارية ثورية لمنطقة «زيتونة باي»، حيث افترشَت الأرض عند الرصيف الخشبي قبالة اليخوت، في خطوة استفزازية تُحيي الصراع الطبقي أو الحقد الطبقي، وتشكّل تتمة لاستهداف سوليدير، كما استعادة لمشهد العام 1975 من خلال تدمير رمزية العاصمة كمعبر لتدمير لبنان.

وبالتالي، الحقد على وسط العاصمة لا يمكن إدراجه سوى في سياق انه أوصلَ إلى انتفاضة الاستقلال في العام 2005، الأمر الذي يستدعي تدميره لإعادة لبنان إلى ما قبل العام 2005 بالحدّ الأدنى، أو ما قبل العام 1990 بالحدّ الأقصى، وكأنّ الهدف تدمير بيروت بعد تدمير دمشق وبغداد وصنعاء.

ولكن في المقابل لا بدّ من تسليط الضوء على جوانب إيجابية في هذا الحراك، وأبرزها انه أيقظَ الرأي العام على حقّه في الماء والكهرباء والضمان والاستشفاء، رافضاً الممارسة السياسية الاستِلشائية التي تَستَغبي الناس وتتآمر على أبسط حقوقها البدائية.

وبالتالي، من الإجرام ان يتلهّى هذا الحراك في زواريب السياسة أو استعادة الأفكار اليسارية البالية في الوقت الذي يفترض فيه أن يركّز ضغطه، ليس على محاسبة المقصّرين فقط، بل على وَقف الهدر وتصويب العمل الإصلاحي وتسريع الحلول في القطاعات الحيوية التي فشلت حكومات ما بعد الطائف في معالجتها.

فرصة تاريخية

فما يحصل في الشارع هو فرصة تاريخية يجب الاستفادة منها شرط أن ينأى بنفسه عن الطروحات السياسية الانقلابية، لأنه يضع جميع القوى أمام مسؤولياتها ويعرّضها لمحاسبة شعبية في حال رفضت التجاوب مع مطالبه، كما يوفّر الغطاء للمؤسسات الرقابية من أجل ان تقوم بعملها بعدما تمّ تعطيلها بفِعل تغييب الدولة، لأنّ الإصلاح الحقيقي يبدأ مع عودة الدولة ومؤسساتها، وإذا كانت الحرب عطّلت تلك المؤسسات، فإنّ تعطيلها المستمر يتحمّله النظام السوري في مرحلة أولى، و»حزب الله» في المرحلة الأخيرة الممتدة منذ العام ٢٠٠٥ إلى اليوم.

وفي هذا السياق بَدت لافتة مَضبطة اتهام «المستقبل» لـ»حزب الله»، حيث أشارت الكتلة في بيانها إلى «انّ مَرتبة «حزب الله» في الفساد تفوق كل التصورات، فإقامة مناطق نفوذ طائفي على حساب الدولة فساد، والتهرّب من الالتزامات التي توجبها القوانين فساد، وعَسكرة البيئات التابعة له وإقامة مربّعات الأمن الذاتي فساد، وتشريع التهريب عبر المرافق العامة فساد، والامتناع عن دفع الرسوم والضرائب فساد، وتشجيع السوق السوداء فساد، والإتجار غير الشرعي بالدواء والمخدرات والكبتاغون وتصنيعها فساد».

هل الهدف التعتيم؟

وإذا كان الهدف الأساس من وراء تجاهل «حزب الله» لاتهامات «المستقبل» التعتيم على هذه الاتهامات بُغية عدم تحويلها إلى مادة سجالية تسلّط الضوء على دور الحزب في هذا المجال، فإن ّالحزب مَدعوّ أوّلاً للردّ بالوقائع، وعلى طريقة السنيورة الذي دعا علناً الى تَبنّي مشروعه للمحاسبة، كما انّ قوى الحراك المدني مدعوّة ثانياً الى عدم تجاهل مضبطة الاتهام المذكورة حفاظاً على صُدقيتها.

وعلى طريقة انّ الذي بيته من زجاج لا يستطيع ان يرشق الناس بالحجارة، فإنّ كل القوى السياسية مدعوّة للإقلاع عن السجال الذي يُبقي اللبنانيين في دائرة المراوحة والفساد، علماً انّ بيان «المستقبل» جاء في معرض وَضع النقاط على الحروف نتيجة الحملات عليه. وبالتالي، الذهاب نحو خطوات عملية تعيد ثقة المواطن بالدولة والتي اهتزّت إلى حد غياب الثقة التامّة بين الناس والسلطة.

فعلى رغم التحفظات التي وضعتها هيئات المجتمع المدني على خطة شهيّب، غير انه من الثابت انّ القضية تجاوزت النفايات إلى قوى استطيَبَت الحراك في الشارع، ولمست وجود إمكانية وفرصة لإسقاط الطائف بالضربة القاضية، بعدما كان قد تمّ تعليقه منذ إقراره.

ومن هنا أصبح من الضروري التعامل مع الوقائع المُستجدة من زاوية إمّا التساهل مع المشروع الانقلابي على قاعدة انّ الدفاع عن اتفاق لم يُبصر النور لم يعد مُجدياً، أو مواجهته تحت عنوان حماية الدستور والجمهورية.