ينشغل كثيرون في لعبة أوجه الاختلاف بين الحراك المدني للشارع اللبناني اليوم وحراكات سياسية سابقة، فمنهم من لجأ إلى إحصاء أعداد المتظاهرين ومقارنتها بتظاهرات أخرى ومنهم من عمد إلى فرز انتماءات أولئك وارتباطاتهم بسفارات خارجية، فيما عوّل آخرون على دور الشغب في انتزاع المطالب الشعبية من السلطة السياسية. لكن تحرك 29 آب المطلبي استطاع بخلاف كثير من التوقعات استقطاب متظاهرين من كلّ الأحزاب والطوائف، وهذا ما جعله متمايزاً عن أي تحركات سابقة كانت القوى السياسية تحشد لها منذ 8 و14 آذار 2005 إلى ما قبل السبت الماضي، محتفظاً ببعض أوجه الشبه ومنها ساحتا رياض الصلح والشهداء والعلم اللبناني دون سواه من الأعلام والبائعين المتجوّلين الذين التقيناهم في الساحتين.

 

 

"أولئك البائعون هم أذرع مخابراتية تتجول بين الناس" قال لي أحدهم، ثم نكأ كتفي ليسرّ لي أن "أسلوب الدولة الأمني في التغلغل بيننا لم يختلف بعد رحيل المخابرات السورية"!. يمكن أن يكون صديقي على حقّ أو أنه ذهب بعيداً بتحليله. أولئك البائعون شاهدناهم منذ أيام الحراك الأولى مع ازدياد أعداد المشاركين بوتيرة تصاعديّة. يبيعون القهوة والعصير والمثلجات والعلكة وقناني المياه الباردة والأعلام وسواها من حاجيات المعتصمين خلال ساعات الليل الطويلة. يصرّون لدى حديثك معهم على أنهم كانوا موجودين في معظم تظاهرات البلد و"ثوراته" قبل عشر سنوات. في أولئك تجتمع "كاراكتيرات" لبنانية صرفة تشبه اللبنانيين جداً، في ثرثراتهم معك وأسئلتهم "إنت من وين؟ وين بتشتغلي؟" وفي تحليلاتهم السياسية عندما يُفتح المجال لهم.

"أبو محمود" هو أحد بائعي القهوة - مثلما عرّف عن نفسه- يعدّها في إبريقين كبيرين، واحد "سادة" وآخر محلّى لمن مرمرهم الوضع المعيشي. بعد يوم أو يومين من لقائي الأول به، سلّمت عليه وابتعت فنجان قهوة "وسط" وبقيت مصادفة على مسافة قريبة منه أحادث أحد الأصدقاء اليساريين، فسمعت أحدهم يناديه بلقب آخر! ربما يخاف بائع القهوة التصريح عن اسمه الحقيقي إذ يرى، مثل كثيرين، في كلّ محادث له "عميلاً" لأحد أجهزة المخابرات أو انّه أحدهم - على ذمة الرفيق- ويتلطّى بألقاب مختلفة.

 

على بعد أمتار يقف "أبو جعفر" قرب عربة صغيرة يجرها ليبيع القهوة للمتذوّقين. "الحياة صعبة" في عينيه، يتجوّل بين زقاق البلاط والزيدانية صباحاً ثم يحطّ رحاله في رياض الصلح عند ساعات المساء "للاسترزاق". عند تصاعد وتيرة الشغب والمطاردات بين القوى الأمنية والمتظاهرين يعود الرجل إلى أولاده الثلاثة حاملاً غلّة يومه الطويل.

 

متنكراً بزيّ طُبع عليه العلم اللبناني ومعتمراً قبّعته الطويلة الملوّنة بهدف "جذب الزبائن" يجوب بائع الأعلام ساحات النضال والشوارع المؤدية إليها. تخاطبه فتتبين أن عبارة "No way" تأخذ حيّزاً هاماً بين الكلمات التي ينتقيها في جملته. يعتبر نفسه متظاهراً دائماً منذ عام 2005 إلى اليوم، "فهذه الساحات لا تنفع في التغيير الجديّ". في أيام الهدوء يتجوّل في شارع الحمراء ليبيع الأعلام والورود والألعاب الصغيرة ذات الألوان المبهرجة، التي يصرّ على إضاءتها لدى التقاط صورة له كي يبدو أجمل. يجبرك على سماع تصريحاته السياسية-الاقتصادية إلى نهايتها: "لا حياة لمن تنادي، لن يتغيّر شيء، نحن الشعب اللبناني لا يحبّ بعضه ولو كنا كذلك لسعينا إلى "تنفيع" بعضنا بدل الشراء من البائعين الأجانب، الكلّ يشكّ في أمري ويسألني: أنت من وين؟ يتفلسفون ويعتقدونني غير لبناني هذه مسخرة لو كنا نحب بعضنا لا يحدث لنا كلّ ذلك ولا كنا انتخبنا نواباً كهؤلاء". يريد الإفادة من الحراك مثلما كان يستفيد من سواه، "هذه فرصتي"، يتابع "لن يستفيد من كلّ هذه الثورات إلا أصحاب الغايات، وأنا أريد العيش ولدي مسؤوليات كثيرة". هل الصناعة التي تحملها لبنانية؟ "no way" من جديد... "طبعاً هناك معامل لبنانية لكن البضاعة الصينية أرخص من اللبنانية". لم يدعني أغادر قبل إنهاء جولته على أحوال العالم العربي الذي "لا يحب بعضه ويتلهى بالمسخرة على بعضه". ضحكت فقاطعني "لماذا تضحكين وأنا أقول الواقع". يتابع شارحاً أصوله في النضال "جدّ جدي كان موجوداً قبل الحرب الأهلية على رياض الصلح وكانوا يسمونه السوّاس إذ يبيع السوس. هذه الساحة ياما حضنت ثورات لكن الحالة هي هي لم تتغير". وللإعلاميين حصّتهم "لا تعملوا من الحبة قبّة ومن القبّة حردبّة"!

 

 

شبهات البعض "الاستخبارية" في حقّ أولئك لا تلغي أنهم من فئات الشعب الذي يكدّ لتأمين لقمة العيش، يفيدون من الوضع الراهن فينقلون نقاط تجوالهم إلى ساحات الاعتصام بهدف إعالة عائلاتهم. يخرجون فور تقدّم شرطة مكافحة الشغب خوفاً على أدواتهم من التكسير فيما "أبو محمود" بقي ليلة السبت الماضي حين خلت ساحة رياض الصلح من المعتصمين، أما أسعار ما يقدّمونه فزهيدة نسبة للوسط التجاري، تذكّرنا بأيام سبقت الحرب التي أنتجت تسويات وهذا ربما ما سيحدث لدى مَن يريدون الإفادة من الحراك المتصاعد، سواء خلاله أو بعد وصوله إلى مطالبه، على اختلاف السبل وشرعيّتها.