لم يكن مرور المفكر الفرنسي بيار بورديو عبر المحطة الفرنسية الخامسة عام 1996 عابراً، إذ دار عقب ظهوره نقاش في أعمدة "لوموند ديبلوماتيك" بينه وبين دانيال شنايدرمان مقدّم برنامج "Arrêt sur images" الذي ظهر فيه، فكان لبورديو مقال تحليلي حول معنى أن يمرّ مثقّف في برنامج تلفزيوني بعنوان " Analyse d'un passage à l'antenne" فردّ عليه شنايدرمان في مقال بعنوان "Réponse à Pierre Bourdieu" يدافع فيه عن موقفه من مجيء بورديو حراً وإتاحة الهواء له. كان بورديو غاضباً من مقاطعة المشاركين له في الحلقة التلفزيونية وغير ممتن لهذا الظهور إذ لم يستطع التعبير عن أفكاره فعلاً في حوار دار حينذاك حول الإضرابات التي حصلت في فرنسا نهاية 1995. لم يقف بورديو بمكانته الفكريّة عند هذا الحدّ بل دوّن في العام نفسه مؤلّفه "Sur la télévision" ليترجم ظهوره الإعلامي بأفكار أكثر عمقاً تتلخص بتفصيل الفوارق بين الصحافة الفكرية والصحافة التجاريّة.

لا يمكننا العثور على نقد شبيه لما أجراه بورديو بعد إطلالته لدى من يظهرون بكثافة على شاشاتنا من "محلّلين" و"اختصاصيين" و"خبراء" وهلمّ جراً من ألقاب فضفاضة. فهو مرجع فكريّ وثقافيّ فرنسيّ عريق له تأثيره في علم الاجتماع المعاصر، أما من يظهرون عبر شاشاتنا – مع أهميّة عدم التعميم – فيتقازمون أمام هامته. هل يسأل هؤلاء أنفسهم عن مدى فاعلية إطلالتهم وأهمية الأفكار المنوي إيصالها؟ وهل أن حوارهم يصلح لأن يسمّى نقاشاً حين يقتصر على تكرار الأفكار حيناً والصراخ والشتائم حيناً آخر؟ وأين دور الإعلاميين في إدارة حلقة الحوار لإيصاله إلى أهدافه من دون صدامات؟

 

 

محصّلة برامجنا: صفر!

أساتذة الإعلام والباحثون في مجاله لا يزالون يتمسكون بضرورات عدم استجابة الجامعة لشروط السوق الإعلاميّة بل أن تصون طلابها وتوجّههم نحو أخلاقيات المهنة وضرورات التنبه لأخطاء الأسبقين. في حديث لـ"النهار" مع الأستاذة المحاضرة في الجامعة اللبنانيّة والباحثة في مجال الإعلام نهوند القادري، تشرح أسباب تحوّل الحوارات إلى صدامات من غير إنتاج أفكار بنّاءة إذ "إن آليّة البرامج الحواريّة، خصوصاً السياسية، قائمة على الاختلاف وتصارع الأضداد ويتمّ اختيار الضيوف على هذا الأساس لتركيب مشهديّة معيّنة وإيجاد حركة داخل الاستوديو لأن البرامج تحتاج إلى الإثارة، إذ نادراً ما نجد ضيفين متفقين في حوار واحد فهذه التركيبة فاشلة في نظر المنتجين. وهذا يدلّ على مأزق في إنتاجيّة الإعلام لكوننا لا ننتج ولا نبتكر برامج بل نستوردها من الخارج وهدفها ربحيّ وتتطلب هذه الخلافات".

من ناحية أخرى، فإن من يدير البرنامج في نظر القادري "ليس قادراً على إمساك برنامجه وتالياً لا يتوخّى الحصول على معطيات لتأسيس حواره وإنعاشه. فالحوار هو تفاعل أفكار للحصول على ما يغني الموضوع. أما وفق الطريقة المعتمدة فثمة أفكار تلغي سابقاتها بحيث تكون المحصّلة صفراً. ثمة نوع من العبثية والابتذال والاستهلاك للأفكار المطروحة والحصيلة ضجيج وعدميّة إذ لا تراكم للأفكار ولا تفاعل".

 

فراغ في الضيوف والسياسة

كيف نصنّف الضيوف؟ تقول القادري: "يكونون عادةً منمّطين ومؤطّرين، ومتوقّع ماذا سيقولون كما لديهم أغراضهم التي يريدون إيصالها وسط حرب معلومات استخباريّة نعيشها نتيجة الصراع الحاصل وتفاقمه. هذه الحرب تتجلّى في التلفزيون إذ إن للشاشة متطلّباتها مثل العنف والمشاعر الجيّاشة والخصام... كلّ ذلك في خدمة الكاميرا ومشهديّتها". ثمة ناحية أخرى متعلّقة بالوضع السياسي الذي نعيشه بحسب القادري: "ثمة فراغ رهيب على المستوى السياسي ويتجلّى في البرامج بهذه الطريقة، وفي النهاية فإن البرامج تعكس ما هو موجود، فالتنافس فيها من دون أي معنى، الحياة السياسية أفرغت من مضمونها. هناك أزمة في المصادر المدروسة والمتحقق منها وهذا يسبّب أزمة لدى الإعلامي والضيف الذي عليه النظر إلى أهمية ظهوره الإعلامي إذا كان يخدم إيصال فكرته. إذا كان غير ذلك فالأفضل ألاّ يطلّ إعلامياً".

 

الإعلاميّ والعنف بوجهيه

الإعلامي يدخل بدوره الصراع ويصبح طرفاً فيحدث شجار بينه وبين الضيف فينسحب الأخير كما شاهدنا في مرات عديدة، "ذلك أن الإعلامي لا يكون في الغالب قد اختار برنامجه إضافة إلى شروط مطلوب منه تأمينها ومفروضة عليه سابقاً كي ينجح البرنامج، فيقع في مأزق أن يصبّ جهده من أجل متطلبات الكاميرا. يخضع الإعلامي لنوع من التعنيف يظهر من خلال حركاته وأدائه وتوتّره في كلامه وحركات جسده فلا يكون مرتاحاً بينه وبين نفسه. هذا العنف المضمر يعيد الإعلامي تظهيره واستخدامه فيكون ارتباكه متوقّعاً"، بحسب القادري.

ماذا عن معايير كانت واضحة ومحترمة سابقاً؟ "نعيش في عالم متفلّت من معايير واخلاقيات المهنة، خصوصاً مع التكنولوجيا الجديدة والتطور الحاصل، ثمة فوضى إذ أصبح كل شخص يستطيع أن يكون نفسه ونقيضها. يجب العمل على المهنة وأن يكون للنقابة دور كما كان للإعلاميين أنفسهم دور هام في السابق".

 

الدم الجديد والنقابة الفاعلة

تتفاءل القادري بمجموعة من الإعلاميين ذوي الخبرة والحريصين على المهنة "لكن المشكلة أنهم لا يلتقون في ما بينهم ليشكّلوا دائرة عمل. هناك مراكز التكوين المهني في الجامعات التي عليها أن تؤدي دوراً وكذلك النقابة التي هي المكان الحقيقي لحصول جدل حول المهنة بعدما أصبحت نوعاً من "بيزنيس". إعادة النظر في تركيبة المجلس الوطني للإعلام وقوانين الإعلام بما أن التطور سبقها. منظمات المجتمع المدني والناس باستطاعتهم أن يكونوا لاعبين فعليين عبر محاسبة ومقاطعة الاعلام وهذا الأمر يحصل في بعض الحالات. وفي الجامعة اللبنانية المكان الأول لصناعة الإعلاميين تبدي القادري رأيها "لست مع فكرة أن الجامعة تستجيب لمتطلبات سوق العمل، عليها أن تعمل على مستواه وترفعه، ليس علينا إعادة إنتاج التشوهات التي تحصل، وظيفتنا أن نضخ دماً جديداً. المتخرّجون الجدد يمكن أن يقوموا بدور إنما يُسأل عن هامش عملهم وتحصينهم من النقابة؟". سؤال يجب الإجابة عنه.