بذات المقدار الذي بعث فيه الحراك المطلبي الشعبي آمالاً زهرية عند اللبنانيين ، فإنّه شكل مصدر قلق وخوف لدى الطبقة السياسية الحاكمة.

وإذا كانت ثنائية الصراع في البلد من فريقي 8 و14 آذار قد أرست قاعدة منذ ما يقارب العشر سنوات أن الشارع ملكاً لها  تحركه وفقا للتوجهات التي تخدم الموقف السياسي لكل فريق ، جاء الحراك المطلبي يؤكد أنّ الشارع ليس ملكاً حصرياً لأيّ فريق حزبي بل أنّ الشارع اللبناني ملكاً للشعب اللبناني .

وأنّ الزمن الذي تمّ فيه استغلال الخلفيات المذهبية والطائفية والحزبية عند الناس واللعب على هذه الأوتار ودعوتهم لملء الساحات في الشارع لتكريس النظام الطائفي وإغراق البلد في فوضى الإنقسامات لتحقيق المزيد من المكاسب الخاصة بالزعامات الحاكمة ، هذا الزمن قد ولّى .

فالحراك الشعبي المدني السلمي استعاد الشارع من مغتصبيه ليعيده إلى أصحابه الحقيقيين ، وأعاد له وظيفته المطلبية والإحتجاجية ضد طبقة سياسية أفرزت على مدى العقد المنصرم دولة فاشلة على كل الصعد السياسية والإقتصادية والإدارية .

وقد كشفت المظاهرات والإعتصامات الأخيرة عمق الهوة التي تفصل السلطة الحاكمة عن الشارع وما تذرع به النواب من أوضاع أمنية خطرة في المنطقة قد لا تكون الدافع الوحيد لإقدامهم مرتين على تمديد ولايتهم البرلمانية بل خشيتهم من ناخب طفح كيله من السنوات العجاف التي يعيشها في عهدهم .

والحقيقة التي يحاول أركان السلطة الفاسدة طمسها هي أن الصراع اليوم لم يعد بين فريقي 8 و14 آذار،  بل أنّ الاذاريين من كلا الفريقين تحولوا إلى فريق سياسي واحد يواجه جيلاً صاعداً يحمل رؤية عصرية للدولة ومفهوماً مدنياً لدورها .

لذا فهم يصرون على دفن رؤوسهم في الرمل ويلهثون لمحاورة أنفسهم تلبية لدعوة الحوار التي أطلقها الرئيس نبيه بري بمعزل عن ممثلي المجتمع المدني والحراك الشبابي رغم أنّهما دافع دعوة الحوار وموضوعها في الوقت نفسه .

فإقصاء ممثلي المجتمع المدني عن أي حوار جدي حول مستقبل النظام اللبناني لا يفقد هذا الحوار مصداقيته فحسب ، بل يفوت على المتحاورين فرصة إصلاح النظام من الداخل وقبل أن تنهار مؤسسة الدولة على رؤوس الجميع .

وأركان السلطة من الفريقين الآذاريين يعلمون في قرارة أنفسهم على الأقل أنّ الخصام اليوم فيهم جميعاً بلا إستثناء بمن فيهم حزب الله اللاهث وراء مصالح إيران الإقليمية على حساب الإصلاحات الداخلية ، وتيار المستقبل الغارق حتى أذنيه في ملاحقة الماضي بانتظار يوم العدالة ، والمأخوذون بوهج الرئاسة اللبنانية الأولى وطرق اصطيادها.

فما يحاول هؤلاء الآذاريين عدم الاعتراف به هو أن هناك جيل صاعد متحرر من الإصطفافات الآذارية يحملهم جميعا وبلا إستثناء وبمختلف تلاوينهم وانتماءاتهم الطائفية والسياسة مسؤولية حالة التردي التي يتخبط بها البلد اليوم.