مرّ أكثر من شهر على أزمة النفايات الفضيحة ، وما زالت الحلول بعيدة المنال والحكومة لا تجتمع، وإن إجتمعت، تخرج بلا قرارات ولا يرشح من جلساتها سوى روائح السباب والشتائم والتعطيل، وكلها روائح نتنة كرائحة النفايات المكدسة في بيروت والمناطق .

غريب أمر هذه السلطة البالية التي تتعاطى مع هذه الأزمة ببرودة أعصاب غير مسبوقة ولا تنظر لها كأزمة خطيرة ولها تأثيرات كارثية على البيئة والصحة وعلى الإقتصاد والسياحة وعلى المياه الجوفية وكل ما له علاقة بصحة الناس ومعيشتهم .

يخرج علينا وزير البيئة لا ليخبرنا عن إيجاد حلول، بل عن تأجيل البتّ بالمناقصات، يعني إطالة عمر الأزمة الفضيحة ، يخرج علينا وزير الصحة ليخبرنا بأنّنا على شفير كارثة صحية ، وكأننّا لسنا في وسطها ، نحن نعرف ذلك، المطلوب من الحكومة والوزراء إيجاد حلول سريعة وناجعة للأزمات والكوارث وليس الإكتفاء بالإعلان عنها .

الهيئات الإقتصادية التي عودتنا في السنوات الماضية على الصريخ والعويل ورفع الصوت وإطلاق صفّارات الإنذار للتحذير من الوضع المزري الذي يعاني منه الإقتصاد اللبناني وخاصةّ السياحة، وأعلنوا أكثر من مئة مرّة بأنه إذا أقرّت سلسلة الرتب والرواتب، سيكون لذلك تبعات كارثية على المؤسسات والهيئات الإقتصادية وعندما تضمن مشروع السلسلة فرض ضريبة بسيطة على المؤسسات السياحية التي بُنيت بشكل غير قانوني على الأملاك البحرية والنهرية، خرج علينا رئيس نقابة أصحاب المؤسسات السياحية جان بيروتي وقتها وذرف دموع التماسيح على الهواء حتى كدنا نصدقه وكاد يصدّق نفسه، لكن كل تماسيح وحيتان الهيئات الإقتصادية لم نسمع لهم صوت بما يتعلق بأزمة النفايات، مع أنّ هذه الأزمة شوّهت سمعة وصورة بيروت ولبنان وضربت الموسم السياحي وأصبحت جبال النفايات هي المعلم الأساسي الذي يتميز به لبنان وليس جبل الباروك وصنين والأرز،  ووصلت الزبالة إلى أبواب مؤسساتهم وبيوتهم ولم يطلقوا أي صرخة ولم يمارسوا أي ضغط لإنهاء هذه الأزمة الفضيحة ، والسبب أن هؤلاء التماسيح والحيتان يقتاتون من الصفقات والسمسرات، لأنهم ومن ورائهم أصحاب مصالح في ملف النفايات.

التحركات الإعتراضية التي نشهدها في الشارع على أهميتها لا تخيف هذه السلطة وهذه المافيات وهؤلاء التماسيح والحيتان، ما يخيفهم، هو ثورة تُشبه ثورة ١٤ آذار تخرج إلى الشارع وتخرج على سلطة الأحزاب وزعماء الطوائف، هكذا فقط يمكن أن يحدث تغييرا" جذريا" في السلطة ونعبر إلى الدولة الموعودة، وهكذا يمكن أن تُحلّ كل الأزمات المزمنة كالكهرباء والمستجدة كالنفايات، هكذا فقط يمكن أن نتخلص من عقلية المافية الحاكمة والمتحكمة بالبلد .

لكن الطبقة السياسية وأحزابها الطائفية والمذهبية عملت لسنوات طويلة على بناء شبكة أمان تحميها وتحمي فسادها وتحقق لها الإستمرارية من جيل إلى جيل، وشبكة الأمان هذه تقوم على تقسيم الشعب لشعوب وقبائل وعشائر طائفية وقطعان حزبية مذهبية وإقناع هذه القطعان المذهبية بأن مصالحها تتحقق بتحقيق  مصالح الزعيم الطائفي وأن حقوق الطائفة تستعاد إذا حصل هذا الزعيم الطائفي أو ذاك وعائلاتهم على مناصب ومراكز هامة في الدولة، ويعمد هؤلاء إلى تخويف قطعانهم المذهبية من غيابهم عن السلطة ويقنعوهم بأن إستمرارية العائلة في الحكم هو لحماية الطائفة والمذهب ، وهكذا نراهم يورثون أحزابهم لأبنائهم مع مبايعة مطلقة من الجمهور الطائفي الموالي بدون أي إعتراض يُذكر ، حتى التيارات التي طرحت نفسها كبديل عن هذه الأحزاب البالية والمفلسة ، وطرحت أفكار ثورية ورفعت شعار التغيير الجذري والإصلاح الفعلي فشلت في تقديم نموذج يصلح لكي يكون بديلاً عن السائد ، فعادت لتستخدم نفس الأسلوب المستخدم في الحكم منذ زمن بعيد  بالتوريث والتعيين وعقد الصفقات ، وما حصل في التيار العوني مؤخراً، من فرض تعيين الوزير جبران باسيل رئيساً للتيار من قِبل الجنرال ميشال عون وإلغاء الإنتخابات التي كانت مقررة في ٢٠ أيلول القادم ، خير دليل ذلك، وهذا يؤكد بأنّ الأزمة في لبنان ، أبعد من أزمة نفايات، هي أزمة أحزاب مذهبية وطائفية تولّد الأزمات ومنها أزمة النفايات الفضيحة .