كالأرنب الذي يخرجه الساحر من جيبه، فجأة يطلع علينا نبأ اعتقال الشيخ أحمد الأسير، الأمر الذي يلفت الأنظار بالطبع ويسجل البطولات للجهاز المهني، لكنها بطولات مطلوبة في أكثر من مكان، ولكنها لا تتحقق سوى ضد بعض القلة.

في الحقيقة لم يشعرني سماعي نبأ اعتقال الأسير في هذا التوقيت بأي غبطة. بل بتعليق عفوي: آه، مرة أخرى!

 

لماذا فكرت بذلك؟ لقد بدا واضحا أنها ستكون مناسبة لإغراق الجمهور في تفاصيل اللعبة البوليسية علّ في ذلك ما يعطي الفرصة للطاقم السياسي الحاكم للتملص من مواجهة استحقاقات المواطن اللبناني المتراكمة: الغرق في النفايات التي يحذر وزير الصحة من أنها ستهدد حياة المواطنين وأمنهم الصحي، مطالباً الحكومة بالتحرك. سيجد من يقول له بالطبع: تحرك أنت، ألست الوزير المختص؟ على غرار ما قيل للوزير جهاد المشنوق حول أزمة النفايات.

 

إنها وصفة سحرية لإشغال المواطنين بالأسير أسيرا عن الكهرباء شبه الغائبة، وعن تهديدات الجنرال الذي لا يتعب ولا يتوقف عن إشغالنا بعظائم الأمور.

 

سيصبح اعتقاله أول خبر، فيما سننسى أن احترام الدستور ليس في تلبية مزايدات الجنرال، بل إلزامه الذهاب إلى مجلس النواب لانتخاب رئيس.

 

وسيأخذ الأسير في طريقه ردود الفعل التي كانت لا تزال تتواتر تجاه خطاب السيد حسن نصرالله الذي أقامه في وادي الحجير وكأنه يقول “شكرا سوريا” مرة أخرى؛ ذلك أن مؤتمر العام 1920 كان ضد فكرة إنشاء دولة لبنان الكبير ومع البقاء مع دولة سوريا التي لم تكن قد أنشئت بعد! المشكلة الآن هي أن سوريا، التي كانت تدافع عن عروبتها في حينه، أصبحت الآن كلها رهينة في قبضة المرشد الفارسي الذي يهدمها فوق رؤوس أهلها لتلبية أحلامه الإمبراطورية العتيقة؛ بحيث يخطئ وكيل المرشد اللبناني القراءة مرة أخرى.

 

وسينسينا اعتقال الأسير، أيضا وأيضا، الاستفاقة المتأخرة والمفاجئة للاحتفال بيوم النصر المصنّف “إلهيا”، رغم أنه تسبب في خراب البلد وانقسامه الحاد إلى فسطاطيْن لا يلتقيان على الطريقة المانوية ذات الجذور الفارسية.

 

المشكلة أن اعتقال الأسير ليس أكثر من تسجيل لبطولات وهمية في اعتقال شخص لم يكن سوى ظاهرة معزولة إن لم نقل بائسة. وإذا ما كنا ننتظر منها شيئا فليس سوى التجرؤ على أن تكشف لنا عن دور حزب الله في حوادث عبرا! ذلك أن تهمة الأسير الكبرى ليست في خطاباته أو تمويله، مما يشترك معه فيها جميع الآخرين إذا لم يفوقوه فيها باعا وقدرة، بل في أنه مطلوب في حادثة عبرا بتهم الاعتداء على الجيش اللبناني وقتل عدد غير قليل من أفراده.

 

 

لا ينتظر الخبراء ردود فعل كبيرة في الشارع على اعتقاله. وهذا صحيح عموما، لكن ذلك لن يمنع شعور الأكثرية من اللبنانيين، ومنهم السنة بشكل خاص، بالغبن من ازدواجية المعايير في دولتنا العليّة، ومن تمتع فئات ومناطق لبنانية بالحماية من وجود دولة ضمن الدولة، لن يمنع معاينتهم اليومية لوجود فئات تحظى بكونها فوق القانون مقابل الأكثرية الخاضعة للقانون ومن قبل أجهزة تكون أحيانا منحازة إذا لم نقل عاجزة.

 

يفضح هذا الاعتقال تقطيع لبنان إلى جزر وقطاعات منفصلة وكأنها لا تنضوي تحت سلطة الدولة كناظم لعمل المؤسسات وللتنسيق في ما بينها. فنجد أن جهاز الأمن يحتفل بالتوقيف ويبرزه كإنجاز أمني استثنائي من أجل استثماره، في منافسة مكشوفة بين الأجهزة الرسمية، من أجل التوظيف الدعائي الذي درجنا عليه.

 

المشكلة التي تتغاضى عنها أجهزتنا هنا هي سلسلة المهام التي تنتظرها منذ ما قبل ظهور ظاهرة الأسير إلى حين اعتقاله. فإذا كان من تهمه التحريض، ماذا تقول أجهزتنا إذن عن التحريض الذي مارسته مظاهرات، من قبل طرف مشارك في الحكومة، تجاه رئيس الحكومة اللبناني الأكثر وطنية وحيادا وحفاظا على مشاركة المكوّن المسيحي، فنال منها الشتم والتحقير والافتراءات المنقولة علناً وعلى الفضائيات. لا بأس بمثل هذه الممارسات من قبل المدللين، فتمرُّ دون مساءلة.

 

أما عن تهمته بعرقلة سير العدالة، فهل أعاقها أكثر ممن تغطيهم الهالة القدسية وتمنع اعتقالهم وهم مطلوبون من قبل المحكمة الدولية؟

 

ناهيك عن “عجز” الأجهزة عن العثور على التشيكيين الخمسة الذين اختطفوا في وضح النهار. هذا دون ذكر من يخطف لقاء فدية ويترك حرا، ومن يسرق السيارات ويتاجر بالحبوب المخدرة وبكافة أنواع الممنوعات ويتركون في أمان، وكأن ذلك تقليد – مسخ لطريقة روبن هود في إعادة توزيع الثروات.

 

ليس السنّة وحدهم من سوف يشعرون بالغضب لازدواج المعايير وتحيزها، بل بعض الشيعة الذين يعجزون عن فهم “قصور الأجهزة” عن اعتقال قتلة هاشم السلمان الذين تحتفظ كاميرات كافة التلفزيونات بصورهم دون أن يحرك أي جهاز أمني أو قضائي ساكنا.

 

فليحتفل البعض باعتقاله، ولتنكأ جراح البعض الآخر، وليزداد الشعور بالتفوق عند فئة مقابل الشعور بالغبن عند تلك المقابلة وعلى قاعدة ليست مذهبية تماما؛ لكن على قاعدة الولاء لمن يعلن أو يقبل بالتبعية للولي الفقيه القابع في طهران.

 

لكن ما ينقص هذا السلوك الفجّ هو عدم “وعي” بأهمية عوامل الغضب من الغبن المتراكم، بحيث يمكن أن تشكل أرضية لعنف وتطرف في الآتي من الأيام. وهذا ما تؤكد عليه الدراسات التاريخية التي بدأت تظهر مؤخرا أهمية الشعور بالغضب كأحد محركات التاريخ.

 

 

المصدر : العرب - د. منى فياض