يحافظ لبنان على وجوده رغم كل العوامل التي تهدّده في بيئة مضطربة، وذلك بفضل جهازه المناعي الاستثنائي. غير أن هذه القدرة على البقاء تحوّلت إلى ذريعة لعطالة وتراخي طبقته السياسية، وهو ما يمكن أن يؤدي في النهاية إلى انهيار البلد. جارته سورية، والمرتبطة به كما يرتبط توأمان سياميان، غارقة في الدماء، وتدفع إليه موجات مستمرة من اللاجئين عبر الحدود. حزب الله، الحزب السياسي الشيعي اللبناني والحركة المسلّحة، انجرّ إلى صراع طائفي إقليمي شرس ومكلف ويائس. داخلياً، أخفقت الأطراف اللبنانية المختلفة التي تخشى انهيار التوازن السياسي الهش في انتخاب رئيس للبلاد أو تمكين رئيس الوزراء من الحكم، وفضّلت الشلل على أي خيار تعتقد أن من شأنه إحداث تغيير عميق في الوضع الراهن. يفرز الصراع في سورية جميع أنواع المشاكل، القديمة منها والجديدة والتي، على المدى البعيد، ستحمل جميع الاحتمالات لزعزعة الاستقرار. رغم أن هذا الوضع يتطلب التصدّي له على نحو عاجل، فإن من غير الواقعي توقُّع اتخاذ تدابير جريئة. غير أنه يمكن للسياسيين بل ويجب عليهم أن يتّخذوا خطوات ملموسة من شأنها مجتمعة أن تخفّف من حدة التوترات بانتظار السنوات التي قد تستغرقها تسوية الصراع في سورية.

 

يستمر لبنان في "أداء وظائفه" في احتواء أزمة تتوالى فصولها ببطء، و إجراءات أمنية ينتج عنها استقطاب متزايد وترتيبات غير رسمية بين الخصوم السياسيين يتوقَّع منها التعويض عن غياب رئيس الجمهورية، وسلطة تنفيذية فعالة، وجهاز قضائي مستقل، ورؤية اقتصادية، وسياسة لمعالجة شؤون اللاجئين. في حين يستمر لبنان في الصمود أمام التهديدات والضغوط الخارجية، فإنه منغمس في هذا التحدّي المرهق إلى درجة يسمح فيها لنفسه بالتردّي والانحلال على نحو بطيء لكن أكيد.

 

ثمة عدد من العوامل التي تعمل لصالح لبنان؛ فقد توقف عن كونه حلبة رئيسية تجري عليها محاولات تغيير موازين القوى الإقليمية؛ حيث حلّ محلّه كل من سورية، والعراق، واليمن وليبيا (إضافة إلى فلسطين) في لعب ذلك الدور التعس. القوة العسكرية والتنظيمية الكبيرة التي يتمتع بها حزب الله منعت أي محاولة لتحدّيه. ولا تزال الذكريات المريرة للحرب الأهلية بين عامي 1975 و1990 تشكّل تحصيناً للدولة والمجتمع ضد الانخراط مرة أخرى في صراع داخلي جدّي.

 

إلاّ أن الديناميكيات التي يشهدها لبنان اليوم تشبه على نحو غريب تلك التي سبقت الحرب الأهلية؛ فقد عادت ثقافة الميليشيات، التي سادت في الماضي، والتي تبددت ظاهرياً مع استيعاب المجموعات المسلّحة جزئياً في أجهزة الدولة، عادت إلى الظهور. والفوارق الاجتماعية والاقتصادية القديمة باتت أكثر عمقاً. وتدفُّق أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين يعيد إلى الأذهان الموجة السابقة من اللاجئين الفلسطينيين، الذين أدى رفضهم من قبل شرائح واسعة من المجتمع اللبناني، وما تلا ذلك من تسييس لقضيتهم، إلى تحوّل ما كان في البداية مبعث قلق إلى تهديد رئيسي للأمن. وقد انخرط حزب الله في دور إقليمي أدى إلى تعميق الانقسام الطائفي، وأضاف هذا الدور إلى مبرر وجوده كحركة مقاومة ضد إسرائيل، والذي تمتع على أساسه بدعم واسع. ويشهد الجيش اللبناني، المؤسسة العابرة للطوائف والتي تعتبر العمود الفقري لما تبقّى من الدولة، حالة استقطاب متزايد.

 

وثمة مصدر آخر للقلق يتمثل في الإرباك غير المسبوق الذي تشهده الطائفة السنيّة، إحدى الطوائف الثلاث الأساسية في البلاد، إلى جانب الشيعة والمسيحيين. يعكس خطاب قيادتها المفترَضة والمتمثلة في تيار المستقبل، الإحباطات المتنامية لقواعدها، بينما تخفق في مخاطبة هذه القواعد بشكل فعّال. نظراً لتراجع اهتمامها وانخراطها في مخاوف ومشاكل هذه القواعد، فإنها أفسحت المجال لتيارات متنافسة، بعضها متطرّف أو حتى عنيف، لتمثيل هذه الطائفة التائهة، والمنقسمة والغاضبة، والمصابة بالذهول من قوة عزيمة حزب الله، وتطور الموقف الأمريكي حيال إيران والعنف المستمر ضد السنّة على أيدي النظامين في سورية والعراق. بالمقابل، فإن تحوّل الطائفة التدريجي نحو مواقف أكثر راديكالية، الأمر الذي يثير مخاوف وجودية من الأصولية السنية لدى الجماعات الأخرى، يسهم بتنامي الدعم الذي يحظى به حزب الله وانخراطه في سورية، بصرف النظر عن كلفة ذلك الصراع المتصاعد. كما أن إحجام الجيش عن التصدّي للنشاط الشيعي العسكري، في الوقت الذي يقوم فيه بقمع مثيله السني، كونه يشكّل خطراً أكثر إلحاحاً، يسهم في تعميق الانقسام.

 

الطبقة السياسية، التي نمت وتغذّت على الصراعات لعدة عقود، عازمة على الاكتفاء باحتواء الأزمة، وتفضّل تحاشي حدوث مواجهة دموية تعرف تماماً أنه لا يمكن الانتصار فيها وأنها ستكون مكلفة للجميع، تفضّل ذلك الاحتواء على معالجة الأسباب الكامنة للأزمة. في حين أن الاتفاقيات المحلية غير الرسمية التي عقدتها تشكل بدائل مؤقتة فعالة، فإنها تساعد في المحافظة على الوضع الراهن وحسب، بينما تسهم في الوقت ذاته بتآكله تدريجياً. التوترات الاجتماعية والطائفية تتصاعد مع التراجع الكبير في جودة الخدمات العامة المقدمة للبنانيين العاديين، وتضاؤل فرص العمل وتحقيق الذات أمام أغلبية السكان واقتصار ذلك على قلّة تتضاءل باستمرار. وبدلاً من حثّ السياسيين على تمثيل مصالحه من خلال مؤسسات الدولة، فإن الشعب اللبناني، القلق والمنهك، خفّض سقف توقّعاته، ولجأ إلى الالتفاف على مؤسسات الدولة واتّباع استراتيجيات المحافظة على البقاء. تؤدي هذه الاستراتيجيات إلى تنشيط شبكات الزبائنية والمحسوبية والفساد وقواعد لعبة تضمن بقاء ورسوخ الطبقة السياسية وبشكل يبقيها بعيدة عن المساءلة ويؤدي إلى تلاشي ما تبقى من الدولة.

 

من المرجح أن سوء الإدارة، مصحوباً بالسياسات غير الديمقراطية وغير الدستورية، سيفاقم المشاكل إلى درجة يصبح فيها التغيير الجذري الوسيلة الوحيدة لمعالجة هذه المشاكل. من مصلحة الطبقة السياسية الانتهازية تأجيل تلك اللحظة؛ لكن المفارقة هي أن هذا يمكن أن يشكل أيضاً دافعاً يمكن تحويله لمصلحة البلاد، إذا سمح الوقت والظروف الإقليمية بذلك. في حين أن الاستمرار في التأجيل والمماطلة في إصلاح النظام السياسي يشكّل استراتيجية ذات أفق مسدود، فإن أي بديل شامل قد يكون أخطر في البيئة المتفجرة السائدة اليوم.

 

تشمل الخطوات الصغيرة لكن البناءة التي يمكن اتخاذها: إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي طال إجراؤها كثيراً، دون انتظار تدخل خارجي لتحديد نتائجها، كما كان الحال تاريخياً أو كذريعة تستخدم للتأجيل؛ وتبنّي سياسة حيال اللاجئين السوريين تقلّص التهديدات الأمنية وتضمن احترام كرامتهم وحقوقهم؛ وتطبيق محاكمات قضائية عادلة إزاء السجناء الإسلاميين وغيرهم؛ وإخضاع عناصر الأمن للمساءلة عن الانتهاكات التي تتم ممارستها ضد السجناء، واللاجئين والمجموعات الضعيفة الأخرى. أضف إلى ذلك أن لبنان بلد لا يزال يوفر بيئة متسامحة حيال النشاط الشعبي؛ وبالتالي فإن المنظمات غير الربحية الناشطة في مجال الصالح العام  والإصلاح السياسي ينبغي أن تفعّل دورها لتعزيز الحوكمة والقيم الديمقراطية، بما في ذلك محاربة الفساد وتعزيز سيادة القانون.

 

إذا أخفقت الطبقة السياسية والآخرون الذين يمكنهم التأثير في مسار لبنان في اتخاذ مثل تلك الخطوات الأساسية والبديهية، فإن البلاد لن تنجح إلاّ في تجاوز الحالات الطارئة التي تواجهها في الوقت الحاضر على حساب رهنها لمستقبلها.

 

بيروت/بروكسل، 20 تموز/يوليو 2015