البلد الذي تُهدَر ثروته المائية ويضيع أكثرها في البحر، ولا يُستفاد من ينابيع المياه العذبة في البحر أيضاً، والذي تتدفق مياه الصرف الصحي فيه بلا تدبير لتلوّث شطآنه، والذي لم يستطع بعد ربع قرن على انتهاء الحرب الأهلية حل مشكلة الكهرباء، والذي تُقضَمُ غاباته وتتراجع مساحته الخضراء بشكل مريع، وتستبدّ به المقالع والكسارات، ويتوسع فيه التصحّر شيئاً بعد شيء، ويعيث الباطون فيه تخريباً بحيث صار عزاء الناس في نبش الصور القديمة للأمكنة قبل عقود، هذا البلد قتلته بيئياً مركزيّته.

فتركّز كل شيء في عاصمته وحولها، ونشأة مجموعة من «المدن الضاحوية» حولها شرقاً وجنوباً، لم يؤدّ لترك المساحة المتبقية من لبنان، أو أغلبه، بمنأى عن التخريب البيئي. صحيح أنّك كلما خرجت من الكتل الباطونية نحو القرى الساحلية والأرياف والجرود والجبال أدركت أنّ «لبنان الأخضر» لم يختفِ كلياً، وأن الطبيعة هي المقاوم الجدّي الوحيد، لكن المركز المتضخّم وبدلاً من أن يكتفي بتدمير البيئة في نطاقه وتركها حرّة نضرة في المناطق المنخفضة الكثافة السكانية، فقد نطق بالعكس: أن تكون المناطق «تابعة بيئياً له»، بدل أن يكون لكل منطقة اقتصادها البيئي الخاص بها، وتشخيص أهلها للتحديات البيئية المتعلّقة بهم، وبمياههم، وأشجارهم، وزرعهم، والثروة الحيوانية، والسياسة المحلية المتعلّقة بتلوث المصانع والمعامل والورش، ونفايات المصانع والنفايات المنزلية ومياه الصرف الصحي، فلا البحر يمكنه أن يستقبل كل شيء، والأحرى أساساً حجر مياهنا العذبة عنه بعض الشيء، وعدم تسليمه المياه المبتذلة قبل معالجتها، ولا الأرض يمكنها أن تطمر كل شيء كيفما كان، فكيف بالأحرى أن تركّز الطمر في مناطق قليلة، ومن دون المتابعة البيئية والصحية اللازمة (في الناعمة هي قضية التلوث القاتل بالنفايات، وفي الزوق هي قضية معمل الكهرباء القاتل).

النفايات التي تتراكم في شوارع بيروت والجبل تأتي إذاً على رأس جبل من التخريب البيئي المزمن الذي يعود بشكل أساسي الى هذا التمركز الشديد، ديموغرافياً واقتصادياً حول بيروت وامتداداتها، هذا التمركز الذي لم يترك البلد الذي خلفه «غابات ومروج»، إنما عمل على ربط بقية المناطق بالحاجات الاستهلاكية والتصريفية والترفيهية للمركز المتضخم، وبعدائية، تكاد تكون ثأرية أحياناً، ولو بشكل مجاني، للمساحات الحرجية، وكذلك للزراعة. 

كل ما يطرح الآن يتراوح بين «العقيم» و»الترقيعي». النفايات تنتشر في عز الحرّ، والروائح والأمراض تصاحبها، وأنواع البرغش والحشرات والقوارض ستتكاثر في البلد الذي فضّل أن لا تكون لديه غزلانه وأرانبه وخنازيره ومعيزه البريّة، وأن يكون الشغل الشاغل لمثقفيه احتقار الريف (تكفيراً عن الريف الزائد عن حدّه في الأدب اللبناني ربّما). 

في جو ضاغط كهذا كل واحد يريد أن لا يرى أكوام النفايات قرب منزله. يريد شيئاً يسميه «الدولة» لتبعد عنه هذه النفايات بعصا مركزية سحرية. وبالتأكيد أيام تقل أو تزيد وتأتي الشركة لسحب النفايات من الشارع. وعندها، سنعود مجدداً لاستصغار المسألة البيئية، سواء لدواعٍ حياتية يومية مرتبطة بتحصيل لقمة العيش، أو بانشغالات سياسية يمكن أن تلف الكوكب. 

الحظ قليل بأن تلتقط جدياً العلاقة العضوية بين التدمير البيئي وبين التمركز المنتفخ الذي يستتبع القرى الساحلية للمدن الرئيسية فيسحب روحها، ويستتبع الجبل للساحل فيؤذي طبيعته وناسه، أنْ لا يكون الوعي البيئي وعياً معاشاً، ومسيّساً (وليس فقط وعياً معلباً للمنظمات غير الحكومية)، ومرتبطاً بوعي الحاجة الى لامركزية بيئية وثقافية تعيد الروح الى كل منطقة في هذا البلد. 

طبعاً، هناك جانب يتعلّق بضرورة عدم تعطيل العمل الحكومي في بلد يعمل فيه الفريق المتبختر بالسلاح الفئوي لتفريغ مؤسساته بشكل يتمادى. لكن هناك أيضاً جانب يتجاوز هذا البعد الإجرائي الداهم، ويتعلّق بنظرة جذرية مختلفة، ومن موقع اللامركزية الثقافية والبيئية .. وليس فقط تلك التي نصفها بالإدارية.