ما كان الاتفاق النووي الايراني الغربي حتمياً. كان يمكنه أن لا يتم. كان يمكن للمفاوضات أن تفشل ولو في اللحظة الأخيرة. هذا لم يحصل ليس لأن المدة الزمنية التي تفصل اتفاق الاطار عن الاتفاق النهائي كانت مدة تمارين معروفة مسبقة وتشويقية فقط لأغراض سينمائية، أو تمارين تصبّر صوفيّ ليس الا، أو أعمال زخرفة خطابية وتقنية لنص الاتفاق الواضح مضمونه النهائي و«مضمونية توقيعه» سلفاً. 

كانت هناك قضايا خلافية بامتياز، والحساب كان دقيقاً للنقاط التي على أساسها يكون التوقيع أو لا يكون. الجانب الايراني لم يستطع في نهاية المطاف التقدم خطوة واحدة على طريق فتح ثغرة في الحظر على استيراد الأسلحة والتكنولوجيا الحربية، مع أنها كانت معركة ظلّ يخوضها حتى الرمق الأخير قبل أن يحتسبها في النهاية بالمعادلة التالية: رفع العقوبات، والنجاح بالتسريع به، في مقابل سد الثغرات في آلية المراقبة الدولية بما يرضي جانباً من نقد الجمهوريين للمسودة - الاطار، يدخل سيولة مالية، وايران بأمسّ الحاجة اليها، وان كان الطريق الى ذلك سيعبّد بتدمير منشآت عديدة، بل معظم البرنامج النووي الايراني المحقق، واستبعاد كل ما كان قيد الامكان وغير محقق، وكل هذا كان بتكلفة مليارات الدولارات.

اكثر من ذلك، حتى الحجم المتاح لايران من انتاج الطاقة النووية للاغراض السلمية سيبقى محدوداً، ولن تتحول الطاقة النووية فيها الى مركزية في كهربة وتصنيع البلاد وتقدم ابحاثها الطبية بل ستبقى طاقة رديفة. عين ايران كانت على السيولة المالية العائدة اليها من رفع العقوبات عن ريع النفط والغاز فيها. كيف ستستخدم ايران المال واين، هل للانضمام الى ركب الثورة الصناعية الاسيوية الكبرى التي تتقدمها فيها باكستان، رغم كل مشكلات هذه الاخيرة، مثلما تتقدمها باكستان نوويا، وبترسانة عسكرية نووية ايضاً؟ ام للمواظبة على الاستثمار في «حزب الله» و«انصار الله» وأمثالهما؟ هذا سؤال يصعب تغييبه. والأهم حين يتطوع انصار «حزب الله» للإجابة، عليه تذكيرهم بأنهم ليسوا، وليس العرب، المعنيين بالإجابة، وانما الايرانيون. الصراع على الاجابة هو صراع بين الايرانيين، والى حد كبير صراع بين «ايرانَين»: آسيوية نهوضيّة، وخمينيّة مكابراتية. 

لا مكان في المقابل للتشبيهات بـ«لحظة تجرّع السم» في نهايات الحرب الايرانية العراقية. لا خامنئي ولا اوباما تجرّعا كأساً شبيهة اليوم. الكوكتيل الذي في الكأس من تركيبة مختلفة. فالحرب لم تكن في الوارد اصلاً لو ان المفاوضات فشلت. لا واشنطن في وارد القيام بها، ولا اسرائيل في وارد تجاوز التنديد الدعائي بالبرنامج الايراني، ولا روسيا كانت لتسهّل الطريق الى هكذا حرب، وصفقة مضادات الطائرات الأخيرة كانت مؤشراً حاسماً. سيناريو الحرب كان سيبقى مستبعداً، مؤجلاً، لو لم يحصل الاتفاق. كذلك القنبلة النووية، ثمة مبالغة غير قليلة في التصوير بأن ايران كانت على قاب قوسين أو أدنى من تفجيرها. 

الجانب الايراني كان يدرك تماماً ان لا حرب ستعاقبه في حال فشل الاتفاق، وهو يدرك ايضاً حاجة الغرب للتقاطع معه على «القُطعة»، بشكل يزيد وينقص، سواء في الشرق الاوسط او من ناحية الخطر الجهادي شرقه، المتمثل بحركة طالبان وتنظيم خراسان والانفصالية البلوشية. لكن ايران كانت بحاجة الى السيولة. الحصار الاقتصادي والمالي فرض اصلاً على تجربة فاشلة تصنيعياً وتنموياً بعد الثورة، وغير متوازنة من الاساس قبل الثورة، وغير قادرة على ان تشبع الحاجات بالريع النفطي وحده في بلد بهذا الاتساع وهذا العدد من السكان، هذا قبل الدخول في كيفية تحويل ارصدة هذا الريع الى الشرائح المنتفعة من النظام «الثوري»، والى اثنيات ومناطق دون اخرى والى قضايا ما وراء الحدود بدلاً من قضايا الايرانيين، وقبل الدخول في تقليص عائدات الريع النفطي بسبب الحصار والعقوبات. 

ان يكون هذا المال المفرج عنه، طاهراً، نظيفاً، فهذا يعني، بعرف الايرانيين، الناس، ان يصرف بالشكل الذي يسمح لإيران بالانتقال من الطور الريعي والزراعي المتخلف والصناعي المتقادم والحرفي المتراجع والسياحي المندثر الى الطور الانتاجي المتكامل. ان تحجز ايران مكانتها في الخارطة السياحية لآسيا، في الخارطة الصناعية لآسيا، في الخارطة الزراعية لآسيا، فهذا يمكن ان يحققه ترشيد استخدام المال الريعي المفرج عنه، انما بشرط استثماره في غير الريع، وتخفيض استثماره في ريع التنظيمات المتشددة والفئوية في عدد من البلدان العربية التي صار كثير من الايرانيين يتعاملون معها كسارقة قوتهم. قبل الاتفاق، كان المواطن الايراني ينظر الى سارقين: الاستكبار العالمي الذي يحتجز ماله، والمقاتل العربي تحت راية ولاية الفقيه الذي يصرف عليه بسخاء فيما المواطن الايراني في حالة مقلقة حياتياً. اليوم اعتدل بعض المشهد: الاستكبار الكبير سيفرج عن المال، بقي الاستكبار .. الصغير، استكبار من تكمن مصلحته في حرف طريق الشعب الايراني عن الحرية والرفاه. 

أيضاً على الصعيد العسكري، الاتفاق مدخل للاختيار بين مسارين: فإما الإرتضاء بأبدية الحظر على استيراد الأسلحة المتطورة والبقاء بهذا الجيش الايراني المترهل جواً وبحراً وفي دباباته، ناهيك عن تخلف البنية التحتية للمواصلات وتداعيات ذلك على حركة الجيش، في مقابل انتعاشة منظومة «الحرس الثوري» الايرانية والعربية - التابعة، واما الاستفادة من المال العائد، ومن آفاق تطوير العلاقة مع الغرب، لبناء جيش ايراني جديد. في الحالة الاولى طبعاً سيزيّن للحرس الثوري انه يقيم امبراطورية «قزلباش مهدويين» عبر المنطقة، لكن في شروط القبول بنووية اسرائيل وباكستان العسكرية، وحداثة قطع الجيش التركي بل والجيوش العربية. وهذا سيبرز أكثر فأكثر منظومة «الحرس» كظاهرة طفيلية على ايران واقتصادها ودفاعها وأمنها وثقافتها وحضارتها.