يُمكن اعتبار الساعات الـ24 بين يومي الإثنين والثلاثاء الماضيين، من الأصعب في تاريخ روسيا ما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. لا يُمكن لأي كان الاقتناع بأن موسكو كانت "سعيدة" بما جرى في العاصمة البلجيكية بروكسل، والعاصمة النمساوية فيينا، وإن أظهرت عكس ذلك.

 

في بروكسل، كان القطار الأوروبي يعود إلى سكّته بعد الاتفاق النهائي بين الجهات الدائنة (الاتحاد الأوروبي والمصرف المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي) واليونان، في شأن ديون الأخيرة. تمّ التوقيع في بلجيكا على حزمة مساعدات، هي الثالثة من نوعها لليونان، بموازاة تطبيق أثينا لجملة شروطٍ، تقيها من خطر الإفلاس الذي كان يتربّص بها في 20 يوليو/تموز الحالي، حين يحلّ أَجَل تسديد مبلغ 3.5 مليارات يورو للمصرف المركزي الأوروبي. وقتها لم تكن اليونان قادرة على الدفع، غير أن اتفاق بروكسل كان بمثابة "خشبة خلاص" من إفلاس آخر، وإن كان يُهددها بإفلاسٍ لاحق، في حال الفشل في تطبيق الشقّ المحلي من الاتفاق.

 

 

 

" أثناء مرحلة المفاوضات، التي سبقت التوقيع على اتفاق بروكسل، صبّت روسيا جهدها لمحاصرة أوروبا من جهة اليونان. استقبل الكرملين رئيس الوزراء اليوناني، أليكسيس تسيبراس، مرتين. شرّعت أبواب "الاتحاد الأوراسي" الوليد أمام أثينا. عرضت روسيا بعد الاستفتاء الشعبي الذي أجرته الحكومة اليونانية في 5 يوليو/تموز الماضي، إمداد بلاد الإغريق بالمحروقات لـ"مساعدتها في إنعاش اقتصادها"، وفق ما أفاد وزير الطاقة الروسي ألكسندر نوفاك. مع العلم أن موسكو وأثينا وقّعتا في يونيو/حزيران الماضي اتفاقاً لبناء أنبوب غاز روسي في اليونان بكلفة ملياري يورو، ضمن مخططات "السيل الجنوبي" أو "السيل التركي"، المفترض أن يُشكّل بديلاً للأنابيب العابرة من روسيا إلى أوروبا عبر أوكرانيا.

 

 

هدفت روسيا إلى خطف اليونان من الاتحاد الأوروبي، خصوصاً أن ردّ فعلها الأولي بعد رفض اليونانيين لخطة إنقاذ في استفتاء 5 يوليو، كان واضحاً، حين اعتبر نائب وزير الاقتصاد الروسي أليكسي ليخاتشيف، أن "تقدّم رافضي خطة الدائنين لليونان في الاستفتاء، يعني أن أثينا قامت بخطوة على طريق الخروج من منطقة اليورو". كان حلماً روسياً، أن يبدأ اهتزاز أوروبا عن طريق اليونان، للضغط على القارة العجوز أكثر، في ظلّ التدهور الأوكراني، لكن اليونان اختارت الحلّ الأقسى بالنسبة لروسيا: البقاء في الاتحاد الأوروبي، رغم الشروط المالية القاسية المفروضة.

 

في فيينا، حصل ما كان متوقعاً. وُقّع الاتفاق النووي بين إيران والغرب. وجدت روسيا نفسها خارج الخدمة. بنود الاتفاق، والشروط الموضوعة، والمصافحات الحارّة بين الإيرانيين والغرب، كلها أمورٍ بدت وكأنها خارج الإطار الروسي. لم تنفع القمم المتلاحقة بين بوتين والرئيس الإيراني حسن روحاني، ولا حتى "صلابة" وزير خارجية الكرملين سيرغي لافروف ولقاءاته مع نظيره الإيراني، محمد جواد ظريف. لم ينفع كل هذا، حتى أن تكرار روسيا لازمة "استمرار بيع الأسلحة لإيران" لأكثر من يومين متتاليين بعد توقيع الاتفاق النووي، قبل التحوّل إلى طرح "بيع طائرات مدنية"، أمرٌ غير معهود في السياسة الخارجية. من حقّ روسيا الشعور بالخيبة، فبيع الأسلحة العادية لإيران ممنوع لـ5 سنوات، أما الصواريخ الباليسيتة فممنوعة لـ8 سنوات، وسوقا الأسلحة والطاقة هما أساس الاقتصاد الروسي.

 

أما الضربة الأكثر إيلاماً، فتتمثل في رفع العقوبات عن طهران، وتدفق الاستثمارات المالية إليها، وهو ما لن تستطيع روسيا فعله بسبب العقوبات المفروضة عليها، على خلفية الأزمة الأوكرانية. مع العلم أنه في إحدى المراحل حاولت روسيا "اعتبار إيران عضواً، ولو غير رسميّ، في منظومة الاتحاد الأوراسي".

 

وتُشكّل ضربة اليونان وإيران على التوالي، لكمة في غير موضعها لروسيا، التي تعمل جاهدة للبروز على الساحة الدولية، في محاولة منها لتكريس دور "القطبين العالميين" مع الأميركي. لكنها فشلت حتى الآن. ومع تحوّلها إلى "طرف" في الأزمة الأوكرانية، بعد محاولاتها ترسيخ نفسها كحَكَم، ظهرت وكأن الطريق ما تزال طويلة للزعامة العالمية. كما أن العقوبات المفروضة عليها بفعل المسألة الأوكرانية، وضعتها في مصاف الدول المغضوب عليها، لتنصرف إلى الدفاع عن نفسها بدلاً من توسيع رقعة الحلفاء.

 

 

" وسيؤدي انفتاح السوق الإيراني إلى تحوّلات اقتصادية هامّة، ستمسّ وسط آسيا. المنطقة التي تعتبرها موسكو بمثابة حديقة خلفية لها، وصولاَ إلى الهند. ومن المؤكد أن الاتفاق النووي سيسير قدماً، على اعتبار أن الفوائد المالية في الطريق نحو وسط آسيا، تُقارب الفوائد التي ستجنيها الولايات المتحدة والغرب، جرّاء الاستثمارات والاتفاقيات المعقودة مع دول جنوب شرق آسيا. أي في البلدان التي لا تتمتع فيها روسيا بأي تأثير.

 

الخطوة الروسية المقبلة، أو الردّ الروسي، سينتقل من مرحلة الجمود التي يمرّ بها، وسط محاولات لإقحام نفسها في السوق الإيرانية الجديدة، إلى مرحلة المواجهة المقبلة وتركيز الصراع في أوكرانيا وتطويره، بما يُتيح للروس "العودة من بعيد"، وإعادة رسم خريطة جيوبوليتيكة تلائمهم مع "هزيمتي" اليونان وإيران. بالإضافة إلى تكريس التفاهم مع الصين، الهدف الأساسي لكل الحراك الاقتصادي الغربي والأميركي. ومع ذلك يبدو مؤكداً أن بوتين يمرّ بأيامٍ صعبة، فروسيا بدأت تعود إلى ما قبل فبراير/شباط 2014، حين بدأت الصدامات في الشرق الأوكراني. أي إلى تلك الدولة "التي يريدها الجميع أن تكون قوية، لكن ليس إلى درجة تُتيح لها التحكّم بقواعد اللعبة". وهو ما أظهره اتفاقا اليونان وإيران. الواقعية السياسية أقوى من الإيديولوجيات الروسية حتى الآن.

 

(بيار عقيقي)