نشأتُ في بيئةٍ طيبةٍ وتعلَّمتُ في كتاب الصدق والمحبة ، وعشتُ مع الأصدقاء الطيبين في قريةٍ فقيرةٍ ، إن لم تكن تحت خط الفقر بأمتارٍ ، وأهلها يعملون في زراعة التبغ، ويصلون النهار بالليل من أجل الرزق  ..

كنا نتنقَّل من بيتٍ إلى بيتٍ ونستمع إلى محاضرةٍ دينيةٍ ،وعندما يحين موعد الصلاة نذهب إلى المسجد ونصلِّي ومن ثمَّ نبدأ بقراءة القرآن الكريم والأدعية والزيارات وبقي النمو العقلي محصوراً بتلك الأعمال، ولم نكمل الدراسة الأكاديمية باعتبار انَّ أشرف العلوم هي العلوم الدينية ، وبقينا على هذه الحال حتى غطَّت اللحى سماء سطوح القرية .

 لم نكن نقرأ الصحف اليومية بالكاد نراها في بعض البيوت،ولم نقرأ كتاباً علمياً أو نصاً روائياً أو قصة حبٍّ حالمة، أو قصيدة غزلية، فكان همنا الوحيد هي قراءة الكتب الصفراء ،وقصص أهل الكهف والرقيم، وأساطير القرون الغابرة، فحتماً أصبحت ثقافتنا تختلف عن الثقافة الأخرى، ولهذا من لم يحضر عملاً مسرحياً إبداعياً ويكتفي فقط بعروض الأقوال لقوافل الفحول من قيلٍ وقالٍ، والخوض في سياسات الناس وإنتماءاتهم ، فمن الطبيعي أن تكون ثقافته المسرحية مختلفة عن ثقافة غيره ...

ومن لم يشاهد أفلاماً سينمائية ، وكان يكتفي فقط بحضور الأفلام التاريخية من غزواتٍ وحروبٍ ، ولم يشاهد سوى قعقعة السيوف ونحر الرقاب وحرق الخيام وحرب السبي ، فمن الطبيعي أن تكون ثقافته السينمائية مختلفة عن ثقافة غيره ..

ومن كان يحرِّم الغناء والموسيقى،ويكتفي بالإستماع فقط إلى الأناشيد الثورية والموسيقى الحماسية ، فحتماً ثقافته الغنائية مختلفة عن ثقافة غيره ..

ومن لم يكتب مقالاً أدبياً رصيناً،إلا مقال السب والشتم والتخوين،فحتماً ثقافته القلمية تختلف عن ثقافة غيره ، ومن لم يسمع في حياته إلاَّ اللطم والتطبير والبكاء ليلاً ونهاراً ،والمشي في الشوارع ، فمن الطبيعي أن تكون حياته مختلفة عن حياة غيره...

من هنا عندما تكون الثقافة محصورة في بيئةٍ واحدةٍ ،وفي كتابٍ واحدٍ ،وخطابٍ واحدٍ، فلا غرابة في الإعتراض على ثقافة الغير وثقافة التنوع والإبداع العلمي والأدبي والثقافي والفني والنقدي كما نعيش اليوم بهجمةٍ عمياءٍ من جمهورٍ لا يتقن إلاَّ هكذا ثقافة لكل من ينتقد أو يخالف رأياً أو يكتب مقالاً مغايراً لتلك السياسة والمفاهيم الضيقة والكتب العتيقة ومجالس الإفتراءات ومواقع البطولات ..

وفي كل الأحوال من حقهم أن يكونوا على تلك الحالة من التثقيف والقراءة ، ولكن حينما يصل الأمر إلى محاولة التخوين والعمالة والسب واللعن والإتهام، فهذا ليس من حقهم إلاَّ إذا كانوا يعتبرون أنفسهم أوصياء على القلوب والنفوس والأقلام ، ويمنحون لأنفسهم صلاحيات لا يملكها إلاَّ رب العباد، إن أهل الكهف والرقيم كانوا من أياتنا عجباً