ما الذي دفع المبعوث الأميركي الخاص ومنسّق شؤون الطاقة الدولية آموس هوشتاين إلى زيارة لبنان مطلع الشهر الجاري؟

 

هذا السؤال كان خلال الأيام الأخيرة محلّ متابعة وتحليل لتجيب عليه كبريات شركات الغاز والنفط العالمية. وسببُ ذلك أنّ هوشتاين جاء الى بيروت هذه المرة بحسب تحليلات مهتمّين بقطاعَي الغاز والنفط في حوض البحر المتوسط، لإتمام عمليّة ضغط تُمارسها الحكومة الأميركية منذ أسابيع على إسرائيل بعدما نقَضَت الأخيرة تحت ضغط هيئات مدنية، توقيعها التزاماتها في العقود التي أبرمتها مع شركة «نوبل إنيرجي» الاميركية التي نقَّبت واستخرجت تقريباً كلّ حقول الغاز والنفط الاسرائيلية البحرية.

 

وتفيد تفاصيل القصة أنّه بموجب العقد الذي وقّعته شركة «نوبل إنيرجي» للتنقيب واستخراج الغاز والنفط في الحقول البحرية الاسرائيلية، فإنّها تحصل تقريباً على 70 في المئة من التراخيص الاسرائيلية للتنقيب والإستخراج، في مقابل 29 في المئة امتلكتها شركة «ديلك» الاسرائيلية (هما شركتان تحالفتا وكوّنتا هيمنة احتكارية على هذا القطاع).

 

وفور توقيع العقود بدأ الأميركيون عبر شركة «نوبل إنيرجي» بالتنقيب وأحياناً بالاستخراج. وكانت هذه العملية قد جرت بوتيرة سريعة بناءً على طلب اسرائيل المستعجلة إتمام اعمال التنقيب والبدء بالاستخراج.

 

لكنّ واشنطن فوجئت أخيراً بإبلاغ اسرائيل لأسباب مختلفة، الى «نوبل إنيرجي» أنها قرّرت تعديل شروط عقدها معها، وذلك على مستوى نقطتين جوهريّتَين:

 

- الاولى، تمثّلت في تراجعها عن منحها نسبة 70 في المئة من تراخيص التنقيب والاستثمار، وذلك تنفيذاً لقانون منع الاحتكار ولتوجّه إسرائيلي جديد ينصّ على عدم منح أيّ شركة إسرائيلية او غير إسرائيلية اكثر من نسبة 10 في المئة من التراخيص في قطاع الغاز والنفط.

 

- الثانية، أنّ اسرائيل قرّرت فرض حزمة ضرائب جديدة على مبيعات الغاز الذي تستخرجه الشركات، وتتضمّن ضريبة القيمة المُضافة.

 

ورفضت شركة «نوبل انيرجي»، ومن ورائها طبعاً الحكومة الاميركية (وزير الخارجية جون كيري يملك أسهماً في «نوبل إنيرجي» بنحو مليون دولار)، هذه التعديلات الاسرائيلية، وحذّرت واشنطن تل أبيب من مغبة تصرّفها هذا تجاه شركة «نوبل إنيرجي»، واعتبرته سابقة ستستتبع رداً أميركياً عليه.

 

تجدر الإشارة الى أنّ شركة «نوبل انيرجي»، ليست الوحيدة التي تضرّرت بانقلاب اسرائيل على اتفاقاتها مع الشركات الدولية التي لزّمتها بتراخيص للتنقيب عن غازها البحري واستخراجه، فهناك أيضاً شركة أوسترالية تضرّرت هي الأخرى، وقرّرت رداً على ذلك، فسخ عقدها وإنهاء عملها في الحقول الاسرائيلية.

 

لكنّ «نوبل انيرجي» رفضت وقف العمل في قطاع الغاز الاسرائيلي، كونها وظَّفت أموالاً طائلة للاستثمار فيه، وليست في وارد التسليم بهذه الخسائر. وبدلاً من ذلك قرّرت خوض حرب ضغوط على الحكومة الاسرائيلية لإرغامها على العودة مجدداً إلى التزام أصل اتفاق تشغيل شركة «نوبل انيرجي» مثلما كان عند بدء عمليات التنقيب والاستخراج.

 

وتُجنّد الشركة الحكومة الاميركية لمصلحتها في حرب ضغوطها على اسرائيل، وذلك عبر شخص هوشتاين الذي تأتي زيارته للبنان ضمن هدف «نوبل انيرجي» لمباشرة حرب ضغوطها على اسرائيل، او للبدء، وبتعبير أدقّ تُفضّل محافل قطاعات الغاز الدولية استخدامه في ممارسة تهويل على تلّ أبيب لإرغامها على العودة عن تعديلاتها الآنفة.

 

وتتضمَّن خطة هوشتاين إشعار إسرائيل بأنّ بيروت تقترب بمساعدة اميركا من ترسيم حدودها البحرية، الأمر الذي تُحاذره تل أبيب. فمعروف أنّه لا يمكن البدء بالتنقيب ومن ثمّ استخراج الغاز في الحقول غير المرسمة بدقّة.

 

وكون لبنان لم يرسّم حدوده البحرية في المناطق الاقتصادية الخالصة، فإنّ كلّ طلباته للشركات الدولية للمجيء للتنقيب عن الغاز في المناطق المتنازَع عليها مع اسرائيل تقابل بالرفض، لأنّ هذه الشركات تتجنّب العمل في حقول تجرّ عليها المتاعب.

 

وطوال الفترة الماضية تنعم اسرائيل بالعمل وحدها في مناطق الغاز البحرية تلك المتنازَع عليها مع لبنان، وتستفيد من غيابه للسرقة وأيضاً للإفادة من نوعيّة الغاز المستخرج من الحقول المشترَكة مع لبنان ضمن تدفقاته الاولى (الخ).

 

وأراد هوشتاين في جانب أساسي من زيارته الإيحاء لإسرائيل أنّ شركة «نوبل إنيرجي» لديها خيارات لحرمانها من الامتيازات الآنفة عبر مساعدة لبنان على ترسيم حدوده البحرية، ما يمكّنها مع شركات أخرى بدء التنقيب والاستخراج فيها خلال وقت قصير. وللدلالة على المعنى العملي لهذا التهويل الاميركي على اسرائيل، يمكن إيراد حقل «كاريش» المشترك بين لبنان وإسرائيل مثلاً والمحاذي لحدودهما البحرية.

 

فالنتائج المتوقعة لترسيمه في حال حدوثه، هو أنّ ملكية لبنان فيه أكثر بكثير من ملكية اسرائيل، وهذا يمنح الشركات الاميركية - لو أرادت فعلاً - إمكانية جعل منسوب الغاز اللبناني المستخرَج أكبر من نظيره الاسرائيلي في هذا الحقل وغيره.

 

ولكن هل تريد واشنطن ذلك فعلاً، أم أنّ إيحاءات هوشتاين لتلّ أبيب لا تتعدى مناورة تهويل عليها لإعادتها الى بيت الطاعة الاميركي في مجال إنتاج الغاز؟

 

تجدر الإشارة الى أنّ هدف الحملة الداعمة في اسرائيل لتعديل شروط عقدها مع «نوبل انيرجي»، هو جعل قرار تل أبيب في قطاع الغاز مستقلاً، ذلك أنّ «نوبل انيرجي» لو استمرت في تحالفها مع «ديلك»، تمتلك لخمس سنوات مقبلة نسبة 70 في المئة من تراخيص إنتاج الغاز الاسرائيلي، فهذا سيجعلها صاحبة القرار الاول في رسم موقع اسرائيل في خريطة الغاز الدولية.

 

وتريد اسرائيل عبر تحديد سقف امتلاك أيّ شركة 10 في المئة فقط من تراخيص غازها، الذهاب الى تنويع شركات التنقيب والاستخراج في حقولها، بحيث لا تعود أيّ منها تملك احتكاراً فيها. وهكذا تظلّ الحكومة الاسرائيلية سيدة لعبة سوق الغاز الاسرائيلي.

 

أين لبنان ممّا يحدث؟

 

أبعد من مناورات الخلاف الاميركي - الاسرائيلي حول غاز الاخيرة في البحر المتوسط، فإنّ السؤال المطروح هو عن مستقبل لبنان داخل قطاع الغاز والنفط المتوسطي، وما هي حقيقة ما يعرضه عليه هوشتاين؟!

 

مصدر مطلع في إحدى شركات النفط الدولية، يجيب عن السؤال بإبراز المعطيات الآتية:

 

أولاً- كان إيريك هوف، سلف هوشتاين، في مهمّة حلّ الخلاف الحدودي البحري بين لبنان وإسرائيل، اقترح انشاء ممرٍّ أزرق يشتمل على المنطقة المختلف عليها بين لبنان وإسرائيل، بحيث يمتنع الجانبان عن التنقيب في هذه المنطقة الى حين التوصل الى حلول في شأن تقاسم ملكيّتها.

 

وفي انتظار ذلك ينقّب الجانبان في الحقول الواقعة حولها ضمن مناطقهما البحرية الخالصة. لكنّ اسرائيل رفضت اقتراح هوف، وباشرت العمل وفق الخطّ الحدودي البحري الذي تعتمده والمتّسم بأنه يرسم خطاً حدودياً بحرياً منحدراً نحو الشمال وليس أفقياً.

 

وبهذه الطريقة تستطيع اسرائيل قَضم مساحات بحرية من المنطقة اللبنانية الخالصة تتَّسع كلّما اتّجه الخط اكثر نحو الغرب. ويترك هذا الإعتداء الاسرائيلي نتائج سيّئة مختلفة على حق لبنان في غازه، ليس هنا مجال عرضها.

 

ثانياً- بعد استقالة هوف من منصبه ورفض اسرائيل مقترحه، حلّ مكانه هوشتاين الذي قدّم بدايات العام الماضي مقترحاً للبنان هدفه عدم جعل الخلاف البحري الحدودي يؤثر على المباشرة في بدء التنقيب اللبناني والاسرائيلي عن الغاز في المنطقة المتنازَع عليها (علماً أنّ إسرائيل باشرت التنقيب والاستخراج على رغم استمرار الخلاف الحدودي البحري مع لبنان).

 

والجوهر العملي لمقترح هوشتاين هو قبول لبنان واسرائيل بتطبيق مبدأ «التوحيد» المتَّبع دولياً في حلّ نزاعات من هذا النوع. ويعني عملياً لجوءَهما الى معيار «التوحيد» لكلّ حقل مشترك بينهما على حدة، حيث يدرس جوف الارض فيه، وتأخذ كلّ دولة نسبة من إنتاجه تُساوي نسبة وجود الحقل في أراضيها.

 

وتتولّى هذه المهمة (التوحيد وتحديد نسب الإيرادات) لجنة تحكيم دولية تُنشئها وتتولّاها شركات التنقيب والاستخراج الملزمة من البلدين والتي يتمّ عبرها حصراً استثمار مشترك للحقول المشتركة. بمعنى آخر، فإنّ هذه الشركات التحكيمية هي التي توزّع مردودات مبيعات النفط على لبنان وإسرائيل، وذلك بحسب حصّة كل منهما في ملكية الحقل المشترك.

 

مشكلة هذا الحلّ تكمن في ما إذا كان مقبولاً سياسياً، لأنّ محصّلته تُعتبر حلاً تحكيمياً ملزماً، فهل توافق الدول المعنية به بالتخلّي عن سيادتها على بيع غازها، لمصلحة الشركات التي تُلزمها التحكيم والاستثمار استخراجاً وبيعاً، في آن معاً.

 

ثمّة مشكلة موضوعية ثانية في حلّ هوشتاين، وهي أنّه يستثني لاعبين أساسيين ليسوا على تماس مباشر مع الاستخراج، لكن لديهم كلمتهم من ناحية السياسة الإقليمية في هذا الموضوع. والمقصود هنا مثلاً إيران وتركيا وآخرين.

 

فأنقرة تمارس «فيتو» على استخراج الغاز القبرصي في الشقّ اليوناني من الجزيرة، حيث تطالب بعودة الجزء التركي من الغاز القبرصي الى تركيا لتصديره لاحقاً الى أوروبا. كما أنّ هناك شكوكاً في أن تقبل ايران بالبقاء خارج اللعبة والقبول بحلٍّ لغاز المشرق على أساس «التوحيد التحكيمي»، أيْ حلّ يعتمد المعيار الاقتصادي - الجغرافي - القانوني الصرف الخالي من البعد السياسي ومراعاة مصالح نفوذ الإقليميين.

 

قصارى القول إنّ حلّ «التوحيد» المشتمل على معيار تحكيم الشركات المستثمرة الإلزامي، يؤدّي الى تنازل دول عن سيادتها لمصلحة مُحكِّمين تقنيّين، ما يجعله غير مقبول لدى دول النفوذ الاقليمي، وحتى من الدول ذات الصِّلة. فأيّ دولة من مالكي حقول الغاز المشتركة في المشرق، لن تغامر بالدخول في عملية تحكمية اذا كانت تشكّ في أنها سترفض نتائجها الإلزامية لاحقاً.

 

ناصر شرارة- الجمهورية