بيدين ملفوفتين بلفافةٍ بيضاء تضحك إيلا طنوس وكأنها غير عابئةٍ بما سيكون عليه مستقبلها. ومع رنين الضحكة يمتزج صوتٌ آتٍ من البعيد لطفلةٍ تسأل: "هل تذكرونني؟ أنا أمل، الطفلة التي رحلت بهدوء".
ليست القضية جديدة. خمسة أشهر مرت على رحيل ابنة الخمس سنوات. أمل سكاف، اسمٌ طُبع في ذاكرة المحبين لكنه مُحي من التداول الإعلامي. في العاشر من كانون الثاني من العام الحالي بدأ العد العكسي لحياة الطفلة. دخلت طوارئ "مركز كليمنصو الطبي" في بيروت بسبب إسهالٍ حادٍّ أصابها. انتظرت أمل المُنهَكة أكثر من سبع ساعاتٍ، ذلك لأنّ الإدارة رفضت دخولها المركز قبل تسديد مبلغٍ قدره 2500 دولار أميركي. وعلى الرغم من أوضاعه المالية المتواضعة استطاع والدها علي تأمين المبلغ "من تحت الأرض" كي تدخل للمعالجة.

وُعدت العائلة بخروج طفلتها بعد يومٍ واحدٍ حداً أقصى. أصرّت الطبيبة المعالجة، وفق "السفير"، على أنها لن تحتاج إلى وقتٍ أكثر من أجل تعويض جسدها السوائلَ التي فقدتها نتيجة إصابتها بالإسهال الحادّ. لكنّ توقّعات الطبيبة لم تُصِب. تحوّل اليوم الواحد إلى سبعة أيامٍ وحال الطفلة من سيء إلى أسوأ.
عُزلت أمل في غرفةٍ منفردة وذلك بسبب إصابتها بفيروس "الروتا" المُعدي، حيث اقتصرت الزيارات على والديها فقط. معاناة الأيام السبعة في تلك الغرفة كانت أصعب من الوصف. واظبت الطبيبة على تغيير المصل، لكنها فقدت السيطرة على الوضع. أعلنت (ج. ع) استسلامها، وطلبت من الوالد أن يعرض الملفّ على أي طبيبٍ آخرٍ يراه مناسباً. فيروس الروتا، الذي كان سبباً في إصابتها بالإسهال، لم يكن وحدَه ما اجتاح جسد أمل العليل. حديثٌ دارَ باللغة الإنكليزية بين (ج. ع) وأحد أطباء المركز أمام والدة أمل أوضح الصورة: الطفلة التقطت فيروساً آخر أدى إلى تدهور حالتها سريعا. أصيبت الطفلة بفشلٍ كلويّ، خزّن على إثره جسدها الكثير من الماء فانتفخ.


بما أن "كليمنصو" يفتقر إلى تجهيزاتٍ لغسيل الكلى، قام الوالد بنقلها إلى مستشفى "أوتيل ديو" لتلقي العلاج. "صارت منتهية"، بهذه العبارة للطبيب المشرف على الحالة في "أوتيل ديو" توقف أمل الوالد بتعافي ابنته. في اليوم نفسه، تعطلت أعضاؤها الحيوية بنسبة 80 في المئة، البنكرياس، الكبد، القلب، لتدخل في غيبوبة وتفارق الحياة بعد أسبوعٍ من نقلها.
يتنهّد "أبو أمل" وهو يعيد سرد الحكاية للمرة الألف. حكايةٌ متعبة، فلا أحد يعتاد سرد قصة وفاة طفله.
وعلى الرغم من أن أمل لم، ولن تخرج، يوماً من ذاكرة والدها، إلا أن قضية الطفلة إيلا طنوس أعادت سكب الملح على الجرح من جديد. ليست مصطلحات "الأخطاء الطبية"، "إهمال المستشفى والطاقم الطبي"، "غياب التجهيزات الطبية"، "التشخيص الخاطئ"، والتي ارتبطت بقضية إيلا، جديدةً على والد أمل. يوم ذهبت صغيرته من الحياة وقف ليشكك بوجود خطأ طبيّ من قبل الطبيبة والمستشفى. وقد أكمل الوالد شكوكه برفع دعوى قضائية على الطبيبة المعالجة وعلى مستشفى "كليمنصو" بتهمة "التسبب بالوفاة عن غير قصد نتيجة التشخيص الخاطئ للحالة".

بدوره، يختصر محامي الجهة المدّعية سامر بعلبكي، الحكاية: "المشكلة في التشخيص الخاطئ، الذي أدى إلى العلاج الخاطئ". يضيء كذلك على الأخطاء التي لا تُغتفر والتي حصلت داخل المركز "في أحد الأيام تُركت الطفلة من الساعة العاشرة صباحاً وإلى اليوم التالي من دون أن يُشرف عليها أحد"!
يُشير بعلبكي لـ "السفير" إلى أنّه "بعد أسبوعين من اليوم موعد الجلسة الثانية للبتّ في القضية". وكانت الجهة المُدّعى عليها قد أبلغت الجهة المُدّعية قبل ربع ساعةٍ من الجلسة الأولى أنّ هذا الملفّ قد أُقفل من قبل وزارة الصحة، وأن لا طائل من متابعة القضية. وكأنّ في الأمر نوعاً من معرفة مسبقة لتفاصيل الملفّ الذي كانت وزارة الصحة قد شكّلت لجنةً في وقتٍ سابقٍ للتحقيق فيه.
كما يلفت الانتباه إلى أنّ عقوبة "التسبب بالقتل عن غير قصدٍ قد تتراوح بين ثلاثة أشهر وثلاث سنوات"، مشيراً إلى أنّ "المركز يتطلّب منه دفع تعويض يحدّده القضاء إذا ثبت جرم الإهمال".


لم تكن أمل هي المريضة، كانت تودّ أن تعيش حياتها بأمل، لكنّ أحداً أهمل هذا الجزء وراح يطبّق ما يعرفه وما لا يعرفه على جسدها الهزيل. على سريرٍ تحيطه رائحة الموت، وبين يدي الوجع لم تفارق الابتسامة وجهها الصغير. ودّعت أمل الدنيا بضحكةٍ عالية ممزوجة بالألم. وعلى عكس ضحكة إيلا المستقبلة للحياة، كانت ضحكة أمل ضحكة وداع.