الحملة الإعلانية التي سبقت نشر وثائق وكيليكس بخصوص مراسلات الخارجية السعودية، بدت أكبر بكثير من مضمون ما نشر من مراسلات حتى الآن. بل، هي في مكان ما، أتت بمفعول معاكس، خفف من غلواء الصورة السعودية التي دأبت على صناعتها وترويجها وسائل إعلام معادية للرياض، ومنها الصحيفة اللبنانية التي نشرت الوثائق.

المضحك، هو تقديم الأخبار للوثائق بوصفها درة الصحافة الاستقصائية وكشف المستور. وهي تتعامل مع “خبر” التمويل السياسي للإعلام في لبنان وخارجه باعتباره لقيا، وكشفا واختراقا لأسوار المعرفة!

المضحك أكثر أن رئيس تحرير الصحيفة عمل ردحا من الزمن مخبرا في صحيفة عروبية يسارية، سيبقى صاحبها ومؤسسها يذكر في تاريخ المهنة بأنه من أوفد لإجراء مقابلة مع العقيد معمر القذافي، وعاد من ليبيا صاحب جريدة. ثم ما لبث أن انتقل إلى المال العرفاتي الذي ملأ بيروت يوما. ثم وجد في الرئيس الشهيد رفيق الحريري موئلا لحسابه المصرفي، ثم “والله أعلم” يسر أموره في حقبة التصادم السعودي الإيراني بتمويلات عبر رجال أعمال ليسوا بعيدين عن إيران ونخبتها السياسية والأمنية.

ليس هذا عرضا في سبيل الإدانة، بل مثال أقرب “لرئيس التحرير/ المناضل الأممي”، يعينه على التذكر أن الإعلام، اللبناني، والعربي عامة، لا يزال في طور الإعلام السياسي المرتبط بتكوينه بمشاريع سياسية، وتاليا بتمويل سياسي، أكان يأخذ هذا التمويل شكل المعونات المالية أو التمويل المباشر بالمعلومات و“الوثائق”، خدمة لأهداف وبرامج ومشاريع سياسية.

أما في مضمون الوثائق، فلن يعثر المرء على ما يشبه السعودية التي يقرأ عنها على صفحات الصحف المعادية لها. فهي ليست تلك الدولة المتوحشة، السفاحة التي لا تسمح بالخطأ معها. بل دولة عادية تقلق من مقال هنا، أو تعليق هناك. وتسعى، بما أوتيت من أدوات، لأن تحمي مصالحها وسمعتها وصورتها كما تفعل كل الدول في العالم. وهي حين تفكر “بالتخلص” من صحفي ما ومن “إزعاجه”، لا يعثر المرء بين ثنايا برقيات خارجيتها على أي شيء ذي صلة بالاغتيال والتصفية. بل لا يوجد في تاريخ الصحافة من أردَتْه المخابرات السعودية لأنه يعبر عن رأي مناهض للمملكة. وفي لبنان أربعة من أبرز ستة صحفيين قتلوا، أردتْهم إرادة الاغتيال السورية. وهم سليم اللوزي، ورياض طه، وسمير قصير، وجبران تويني. فيما تكفلت مخابرات جمال عبدالناصر في تصفية كامل مروة، صديق السعودية، وأحد أبرز الكتاب والصحفيين العرب.

لم نعثر في الوثائق على ما من شأنه تعزيز تصدير الوهابية، بل دعم كل ما هو على نقيض قيمي لها، وكل أدوات القوة الناعمة “المخاصمة للإسلام السياسي” في لبنان على الأقل. إلا إذا كانت محطة “إم تي في” تبث ما لسنا على علم به ومن شأنه تعزيز قيم الوهابية بين اللبنانيين.

كما ليس بين الوثائق ما يدل أن المملكة تريد من اللبنانيين أكثر مما تريد أغلبية اللبنانيين للبنان. وهذه الأغلبية موثقة في عمليتين انتخابيتين برلمانيتين حازت فيهما قوى الرابع عشر من آذار على الأكثرية. فالسعودية في الوثائق داعمة للخيارات السيادية للبنان، وحريصة على استقراره، ومتبرعة حتى للتسويات التي تظن أنها تحمي لبنان واللبنانيين وأمنهم وتحفظ مستقبلهم. هل هذه فضيحة!

بل تظهر بعض الشخصيات اللبنانية في بعض الوثائق ناصحة للسعوديين، وفي موقع من يملك القدرة المعرفية على التأثير بصناعة القرار السعودي حيال ملفات إقليمية محددة، أو على الأقل في موقع من يملك معطيات تساهم في صناعة القرار لاحقا، كما تظهر الوثيقة حول قراءة رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة، لمواقف رئيس حكومة العراق السابق نوري المالكي بخصوص سوريا.

الحقيقة، أنه إن كانت من ملاحظات على السعودية تكشفها الوثائق، فهي في مدى التقصير في حجم الدعم المقدم للبنان ولإعلامه ولسياسييه. فالوثائق تكشف أن “المال السعودي” يقارب الوهم، حين نقارن الأداء المكشوف عنه عبر الوثائق، بما يكتب ويحكى وينسج عن التمويل السعودي. بعض المؤسسات التي تشكل رأس حربة في مشروعها اللبناني المتقاطع مع المشروع السعودي لم تحصل إلا على ربع ما طلبته من تمويل وبالتقسيط، فيما ليس خافيا حجم الإنفاق والرعاية الإيرانية للإعلام المعادي للسعودية. يكفي إحصاء عدد الفضائيات التي تستضيفها الضاحية الجنوبية لبيروت، برعاية مباشرة من حزب الله، بالإضافة إلى الفضائيات العراقية، دعك من الصحف والمعلقين الذين لا يطل أحدهم في الإعلام إلا رئيسا أو مديرا لمركز بحوث سياسي أو إستراتيجي أو عسكري أو إعلامي، فيما وظيفته تقتصر على الشتيمة والتجريح وكسر الهيبة. هذا عدا عن رعايات مباشرة لضباط وقضاة وأصحاب مواقع نافذة داخل هذه الدولة أو تلك.

الوثائق تكشف عن دولة متأخرة في الرعاية بالمقارنة مع حدة الصراع القائم، وبلا إستراتيجية واضحة في موضوع الإعلام ولعبة الرأي العام وصناعته. دولة مهجوسة بإسكات من يعاديها أكثر من هاجسها برعاية إنتاج إعلام مضاد. دولة تهتم بإطفاء المعارك الإعلامية إن أمكن بدل إشعالها.

هذا على الأقل مملكة ما قبل عاصفة الحزم. أما مملكة ما بعد العاصفة فهي أكثر ثقة وإقداما، وعساها تكون أكثر رؤية وتبصرا حول مركزية الإعلام في المعركة القائمة. وعسى أن يكون التمويل في المستقبل القريب بحجم السمعة.

ما نريده من المملكة أكثر بكثير مما كشفته ويكيليكس.

 

المصدر: العرب