حارب العماد ميشال عون الدكتور سمير جعجع في أواخر الثمانينات، واتهمه صادقاً، بأنه كان يعد لمشروع الدويلة المسيحية من كفرشيما الى المدفون.

كان الخطاب السياسي لعون آنذاك خطاباً توحيدياً جذب أكثرية المسيحيين، جذباً وخوفاً من دويلة «القوات اللبنانية» المزعومة، وتحذيراً من «صاحب الأقدام التهجيرية» الذي «هجّر» شرق صيدا والجبل، والذي كان يُعِد، لولا العناية الالهية، لرسم نهائي لحدود الدويلة، بقوة الجبايات غير المشروعة، وسلطة الميليشيات.

أما اليوم فقد استفاق المسيحيون أنفسهم، الذين دفعوا من دمهم ثمن إسقاط دويلة «القوات»، على طرح تاريخي لعون، الذي حارب تلك الدويلة، والذي واجه صاحب مشروع الفدرالية، بطرح يسوّق للفدرالية، فهل كان جعجع يستحق هذه الحرب، وهل كان الثمن الذي دفعه المسيحيون في مكانه، هم الذين اعتقدوا أنّ حرب عون هي حرب الشرعية في وجه اللاشرعية، وحرب الدولة في وجه الدولة، وهل تغيّر اليوم موقع الطرفين بحيث انتقل كلّ واحد ليجلس مكان الآخر، بحيث بات عون رائد مشروع الدويلة، فيما جعجع انتقل الى تبنّي فكرة لبنان الكبير التي تتجسّد اليوم بالتمسك باتفاق الطائف؟

وتجاوُزاً للمسؤولية التي يُفترض أن يتحمّلها مَن قام بتلك المغامرات ومَن رفع من أجلها الشعارات المطاطة والفضفاضة، فيما كان هدفها الحقيقي النزاع للوصول الى السلطة، لا بدّ من التساؤل حتى الامس القريب، لماذا كانت تدور تلك الحرب بأشكال مختلفة بين طرفين عادا وانقلبا على توجّهاتهما الاساسية، وما هو الواقع الحالي الذي يحكم علاقة هذين الفريقين بما يجري اليوم في لبنان والمنطقة، وما هو تصوّرهما لمستقبل المسيحيين ودورهم، وهل ما قاله عون عن الفدرالية يمثل فعلاً موقفاً مسيحياً جامعاً، يفترض أن حدود المدفون أصبحت ضرورة لحماية المسيحيين، بعيداً عما يجري من متاعب في القلمون وغير القلمون؟

الواضح أنّ الحوار «القواتي» ـ «العوني» يسير على خطى الانكفاء المسيحي الفعلي، من جراء الخوف ممّا يجري في المنطقة وفي سوريا وانعكاسه على الوضع المسيحي في لبنان، فهذا الحوار الذي توصّل حتى الآن الى نتائج هزيلة، بات يُوَظَف ضمناً في خدمة مشروع المدفون، حيث تترك «القوات اللبنانية» لعون حرية تعطيل الحياة السياسية، وضرب الدستور، وشلّ الرئاسة الاولى، وتنكفئ عن لعب الدور المفترَض أن يكون مُناطاً بها، في تأمين غطاء مسيحي، لإتفاق الطائف، ومنع ضرب المؤسسات، وهو دور كانت تقوم به بجدارة، قبل بدء الحوار «القواتي»ـ «العوني»، حيث سجل للدكتور سمير جعجع في إطلالاته الدورية مع كلّ جلسة انتخاب فاشلة مواقف تضع الاصبع على الجرح المسيحي النازف الذي سببه عون، بتكراره التسبّب في أزمة الفراغ الرئاسي في الاعوام 1988 و2008 و2014 على التوالي.

وكما كان عون بقدرته الفائقة على قلب الحقائق، بطلَ محاربة مشروع المدفون، في العام 1988، فيما كان هدفه الوصول الى قصر بعبدا، ها هو اليوم وبعد 17 عاماً، يعطل الدولة والمؤسسات للوصول الى قصر بعبدا، متسلِّحاً بمشروع المدفون الذي كلفت المواجهة من اجل محاربته، مليون مهاجر مسيحي، وخراباً فاق الوصف، وآلاف القتلى والجرحى، أما المفارقة في الحالتين، أنّ «القوات اللبنانية» امتنعت حتى اللحظة الأخيرة عن الدخول في المواجهة، مع مشروع الطموح الرئاسي، ففي العام 1988 جرّ عون «القوات» الى قتال دموي لم يكن منه مفر، وفي العام 2015 جرّها الى صمت ثقيل هو «إعلان نيات» يشبه في تعاميه عن الحقائق، إنكار بطرس لسيده قبل صياح الديك، كلّ ذلك من أجل مكسب هزيل يتمثل في وقف الحرب الإعلامية، وطيّ صفحة العام 1990.