عندما تركت ضيعتها الشماليّة وتوجّهت إلى بيروت لمتابعة دراستها والعمل لتأسيس حياة جديدة، لم تكن تعلم غنوة مدى صعوبة تحقيق الأحلام الورديّة التي راودتها منذ الصغر. لقد تركت منزل العائلة بسبب مشكلات مع والدتها التي تزوّجت ثانية بعد وفاة والدها، وباتت تعنّفها وتسيء معاملتها. ولمّا بلغت الثامنة عشرة أخذت قرارها ومضت فيه، وبالمال القليل الذي ورثته عن والدها استأجرت غرفة وتسجّلت في إحدى الجامعات الكبرى في بيروت للتخصّص في مجال علم النفس، وبدأت العمل في الجامعة نفسها، إلى أن وقعت تلك الحادثة.

 

"كنت أدرس وأعمل وسعيدة بحياتي الجديدة التي أبنيها، إلى أن بدأ المسؤول عنّي يبدي إعجابه بي". وتتابع غنوة في حديثها لـ"النهار": "مذ بدأت العمل، كان المسؤول عني الذي يكبرني بسنوات يحاول أن يتودّد إليّ، لكن لم أعِره اهتماماً، فتابع تماديه معي، وبات يتصل بي ويراسلني، لكنني كنت أتجاهله، إلى أن تحرّش بي جسدياً، فعلا صوتي، وعلم المدير المسؤول بالحادثة، وعالجها عبر نقلي إلى قسم آخر. هنا في مجتمعنا، الفتاة التي تتعرّض لتحرّش تصبح مذنبة إذا تكلّمت".

 

تحرّش ولملمة الموضوع

في القسم الثاني لم تكن شروط العمل أفضل ولم يكفّ المسؤول السابق عن التحرّش بها، لقد عانت غنوة الأمرّين: "لقد ضغط كثيراً عليّ في القسم الذي نُقلت إليه، فلم يسمحوا لي بالقيام بأي عمل أو المشاركة بأي نشاط، ولم أعد أشعر أنني مفيدة. كما بقي المسؤول السابق يحاول الاتصال بي فسجّلت كل اتصالاته واحتفظت بكلّ رسائله وهدّدت بفضحه، عندها لملم الإدرايون القضية، وطلبوا منّي ترك العمل، ولمّا لم يكن لديّ وظيفة أخرى، لم أقبل بل أصررت على رؤية عميد الجامعة، عندها أحالوني إلى طبيب نفسي بحجة أنني أختلق القصص... وبعد أن تعبت نفسياً، وافقت على الرحيل، أخذت تعويضي القانوني ووقّعت على ورقة تبرئ ذمتهم من أي مطلب ورحلت. لقد طردت لأنني قلت لا!"

 

بعد تركها العمل الذي شغلته لمدّة 4 سنوات، تغيّرت حياة غنوة، ولم تستطع إكمال دراستها ونيل الإجازة، كما خسرت لقمة عيشها، "كان راتبي جيّداً، يكفيني ويسدّ احتياجاتي كلّها. لماذا تطرد الفتاة التي تريد أن تعمل بشرف وكرامة من وظيفتها؟ ولماذا تحرم من لقمة عيشها؟ ها أنا أعمل اليوم في نادٍ رياضي، لم أستطع إكمال دراستي لأنني كنت أعمل لأوفّر جزءاً من الأقساط. والدي توفّي، ولا يوجد لديّ سند في هذه الحياة التي تظلم الفتاة لمجرّد أنها فتاة".

 

التحرّش في القانون

غالباً ما تتعرّض النساء للتحرّش الجنسي خلال أداء عملهنّ، وكثيراً ما نقرأ ونسمع إعلانات "مطلوب موظفات يرتدين ملابس مثيرة". إذاً التحرّش داخل أماكن العمل موجود، سواء أكان لفظياً أو جسدياً أو جنسياً أو نفسياً، وهو من القضايا المنسيّة التي لها تأثيرات سلبيّة على حقوق العامل المختلفة.

 

التحرّش ليس تودّداً بل هو انتهاك لحقوق الإنسان، إنه ابتزاز لشخصه واحتقار لكرامته، إنه جرم من المفترض أن يعاقب عليها القانون، لكن في لبنان لا عقوبة تطاول المتحرّش في أماكن العمل، ولا وجود لأيّ تشريعات تحظره أو تعاقب عليه.

 

من هنا، عملت جمعيّة "نسويّة" مع جمعيّة "المفكرّة القانونيّة" على إعداد مشروع قانون يضمن حقوق العامل في مكان العمل ويمدّه بحماية، ويقضي المشروع بحسب ما يؤكّد المحامي كريم نمّور لـ"النهار" بإلغاء الاستثناءات الواردة في المادة 7 من قانون العمل، بحيث يستفيد الأجراء الزراعيون أو العاملون في خدمة المنازل من حماية قانون العمل، وتكريس حق الأجراء بالتمتع ببيئة سليمة للعمل خالية من أي تحرش جسدي أو نفسي، وإلزام صاحب العمل بتأمين بيئة عمل سليمة عبر تضمين نظام المؤسسة الداخلي المواد الخاصة بالتحرش الجنسي والمعنوي وإيجاد أصول تقديم الشكوى لديه، وتجريم التحرش الجسدي والتحرش النفسي مع تحديد أركانهما، وتحديد عقوبات وفق مبدأ التناسب بينها وبين خطورة الجرم، وحماية المتضرر والشهود من أي تدبير تعسفي أو تمييزي انتقامي، وضمان حقوق المتضرّر من التحرش بترك مكان العمل على مسؤولية صاحب العمل وبالحصول على تعويض يتناسب مع خطورة الأفعال المرتكبة ضده.

 

يشار إلى أن مشروعًا كان يقضي بتعديل مواد في قانون العمل وإضافة مواد إلى قانون العقوبات لتلحظ التحرّش خارج العمل، وفي إطار النقاشات التي دارت حوله، تمّ الدمج بينه وبين مشروع قانون آخر تقدّم به النائب غسّان مخيبر ضمن إطار مشروع قانون خاصّ بالتحرّش بعيداً من قانون العمل. مشروع القانون علّق حتى إشعار آخر، والتحرّش مستمرّ في الغرف المغلقة، فهل يشمل التمديد الساري المفعول في كلّ الدولة اللبنانيّة مسألة هضم حقوق المواطنين؟



المصدر :النهار