قليلةٌ هي السِيَر الخاصة التي يمكن اعتبارُها مرايا لسِيَرٍ عامة تتداخل فيها السياسةُ بالثقافة بالانتماء الجغرافي ومدلولاته ثمّ بتخطّيه، وتبقى في الوقت عينه ذاتيةً في الكثير من تفاصيلها تعني صاحبها الفرد وحده. ولعلّ سيرة حبيب صادق، الكاتب والشاعر والسياسي وأمين عام المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، واحدةٌ من السِيَر تلك.

 

ففي الحوار الطويل الذي أجراه معه الزميل طانيوس دعيبس وصدر قبل أسابيع في كتاب بعنوان "حوار الأيام"، يستعيد صادق أيّامه وذكرياته ويسترسل في عرض أخبارٍ سياسية وثقافية، متحرّكاً على الدوام بين الخاص بحميميّته والعامِ بعوالمه التي ساهم وأمثالُه في بنائها على مدى أكثر من نصف قرن من الزمن.

 

بهذا، يتحوّل الحوار الى روايةٍ تحمل ثلاث سيَرٍ شخصية متوازية: سيرة الفرد المنحدر من عائلة جنوبية لبنانية شيعية، المتمرّد على هويّاتٍ وسلوكيّاتٍ وتمييز إجتماعي؛ وسيرة المواطن المختار الماركسية ثم اليسارَ بالمعنى الأرحب نهجاً وأفقاً سياسياً وثقافياً؛ وسيرة الإنسان المُدمن على الإقامة في التقاطع بين النشاط الثقافي والكفاح السياسي والتفرّغ لهما إدماناً لا شفاء منه!

 

في السيرة الأولى، يُعلي حبيب صادق باكراً تمرّده بدفعٍ من ظروفه العائلية وعلاقته بوالده المعمّم والمِزواج، وارثاً لغته الفصيحة وحبّه للشعر ومنقلباً على مسلكه العائلي واتّخاذه الدِين عمامةً وسلطة

 

. وفي السيرة الثانية، يُلاقيصادق المدّ اليساري الذي عرفه الجنوب اللبناني وبيروت التي انتقل إليها من الخيام والنبطية، فيقترب كاتباً وشاعراً من الماركسية وحزبها ومثقّفيها، ويدخل المجلس الثقافي للبنان الجنوبي حيث سيكون الجنوب وتماسه مع فلسطين كما اليسار وقضاياه اللبنانية والعربية رفيقَيه على مدى عُمرٍمستمرّ رغم التبدّلات والتحوّلات الكبرى. وستجمعه السيرة هذه بمئات المثقّفين العرب مُنشِئةً له صداقات وطيدة مع الكثيرين منهم

 

. أما في السيرة الثالثة، فيستعيد صادق أيّامَه السياسية منذ ترشّحه الى الانتخابات النيابيةالعام 1968 ثم العام 1972 مدعوماً من كمال جنبلاط والحزب الشيوعي في وجه كامل الأسعد، مروراً بعبوره "قطوعات" الحرب الأهلية ومحاولة الاغتيال عقب دخول جيش النظام السوري الى لبنان، ثم تدمير منزله وجرفه في الخيام بعد الاجتياح الإسرائيلي الأول العام 1978، وسعيه مع فنّانين ومثقّفين الى شحذ الدعم لجبهة المقاومة الوطنية ولمستشفيات النجدة الشعبية، وصولاً الى أيام بيروت السوداء في الثمانينات وما رافقها من اغتيالات لمثقّفين شيوعيّين (متحدّرين من عائلات شيعية)، وانتهاءً بشبه تفرّغه للسياسة نائباً ضمن "لائحة التحرير والتنمية" التوافقية في أوّل انتخابات بعد الحرب العام 1992 ثم مواجهاً لرئيس اللائحة إياها وللقوى المُهيمنة جنوباً، أمل وحزب الله وحلفائهما، ومن خلفها للإدارة السورية للبنان، في انتخابات العامين 1996 و2000 وما تلاهما من أحداث وتطوّرات.

 

ويمكن لمن جمعته علاقة وثيقة – شخصية وسياسية - بصادق أن يُضيف الى سِيَر "رواية الأيام" الثلاث سيرةً رابعة موازية. هي تلك التي تتّخذ من النزاهة والاستقامة مرجعاً يُعينها على الاستمرار وعلى إبقاء السيَر الثلاث الأولى متلازمةً ومترابطة. فحبيب صادق من ندرةٍ جمعت التمرّد واليسار والعمل السياسي والنشاط الثقافي بنزاهةٍ وباستقامة معطوفة على تمسّك شديد بالكرامة، تتسبّب له في أحيان عديدة بانكفاءات طوعيّة يغلب لاحقاً إدمان العمل عليها فيُعيده من جديد الى الشأن العام. 

 

هكذا عاش حبيب صادق وما زال على نسج رواية ثلاثية الأبعاد (أو رباعيّتها) تحمل فرادةً لا تَحول دون اتّصالها بالعام وبتجارب كثرٍ من أترابه، وتحمل ما يُعدّ عموميةً لا تخنق الخاصَ أو تُذيبه تماماً.

 

له ولما مثّل ويُمثّل العُمرَ المديد والمزيد من الحوارات والكتابات وإدمان النشاطوالمشيَ دوماً - رغم السنين وآثار المعارك - مرفوعَ الهامة.

 

المصدر: ناو