ما الفارق بين مصطلح «الظلامية« السجاليّ الذي شاع يساريّاً ضد «حزب الله« و«حركة التوحيد« في الثمانينيات، وضدّ حركات اسلامويّة أخرى في البلدان العربية الأخرى، وبين مصطلح «التكفيريّون« الذي يستخدمه «حزب الله« ضدّ «داعش والنصرة« ثم يتوسّع فيه ليتقصّد الأنسجة الأهلية للثورة السوريّة، فضلاً عن المناهضين لتدخل الحزب في الحرب السوريّة بشكل عام؟

المصطلحان سجاليّان، وفي السياق الذي يعنينا - «ظلامية« حزب الله و«تكفيرية« من يحاربهم في سوريا اليوم - يتّصل كلّ منهما بوقائع احتراب أهلي.

يبقى أنّ مخاصمة «الظلاميّة« تفترض رأساً «تنويرية« الموقع المضاد لها. وهذا مبرّر، جزئياً، في حال صدر الاتهام من موقع يساريّ أو ليبراليّ، أي من موقع تيارات تتنازع بأشكال مختلفة تركة عصر التنوير الغربي (أي تحديداً أفكار فلاسفة القرن الثامن) والاقتباسات العربية منه. 

فبالاتكاء على تركة عصر التنوير، سيصبح متاحاً اعتبار العداء الثقافي للغرب كما تطرحه الخمينية ظلامياً، واعتبار كل من يناهض كونية مفهوم الانسان، واستقلال العقل العلمي عن العقل الغيبي أو المتصالح مع الغيب ظلامياً، وكل من يرفض اعتبار الحق الطبيعي مصدر التشريع الوضعي ظلامياً. وكانت تترادف في الأدبيات اليسارية مصطلحات «ظلامية وغيبية«. 

لكن ثنائية «تنويرية وظلامية« قامت على مبالغات لم يحتملها الواقع، ومن طرحها عاد فسحبها من التداول. يعود ذلك بطبيعة الحال الى ميزان القوى، لكنه يكشف بأنّ هذه الثنائية سجالية، ودعائية، أكثر منها مواجهة فكرية عميقة. كما يفضح تشوّش التنويريين المزعومين. فهم بدلاً من ادراك أنّ عصر التنوير متعدّد الأوجه، وأنّ مساهمة رجال الدين فيه (الأنوار السكوتلندية) لم تكن بأقل من مساهمة صالونات فلاسفة باريس (أنوار الدهريين واللادينيين)، راحوا يختزلون التنوير في خط مستقيم يتيم واحد، وبدل ادراك أن من وقف بوجه التنوير لم يكن فقط أفكار الماضي وانما فكر معاد للتنوير يمارسه على طريقته، وفي حدوده، تنويراً مضاداً، فقد خلصوا الى انه اما ان تكون تنويرياً واما ان تكون ظلامياً. اليوم يجري التمييز في تاريخ الأفكار بين أنوار معتدلة وأخرى جذرية، وبين أنوار ساطعة وأخرى قاتمة، ولئن كانت علاقة مهمة بين التنوير وبين نقد الاستبداد فإنها ليست علاقة مطلقة. فولتير وديدرو التنويريان جداً في فرنسا، كانا صديقين للمستبدة المستنيرة كاثرين الثانية الساعية لاستعادة القسطنطينية، والمتربعة على عرش روسيا القيصرية. يمكن أن تكون تنويرياً وصديقاً للاستبداد هنا، وخصماً له هناك. يمكن أن تبرّر الظلام في مكان ما باسم التنوير. 

بدل تشغيل الرأس بهذه المسائل - علماً أن التعريف الأبسط للتنوير هو أن تشغّل رأسك بحرّية، ساجل اليساريّون الاسلاميين بسذاجة. قالوا لهم، اما ان يكون المرء تنويرياً واما ان يكون ظلامياً، واذا كان ظلامياً فهو يريد ان يرجعنا الى «القرون الوسطى«. شاع آنذاك في الأدبيات نحت «قروسطية«، وهذا مصطلح مسخ، لا يدرك مروّجوه بعد أن النظرة الى «القرون الوسطى« تبدّلت على نحو ايجابي مع تراكم أعمال المؤرخين جيلاً بعد جيل، فضلاً على ان «القرون الوسطى« بالمدلول الغربي، لا تمارس تحقيباً كونياً يشمل كل الحضارات. زد عن ان مفهوم «القرون الوسطى« حديث نسبياً ولم ينتج في غضون القرون الوسطى.. 

في المقابل، عندما يصف «حزب الله« «الجهاديّين« بأنهم «تكفيريّون«، فإنّ المبهم هو المفهوم الايجابي في مقابل التكفيريين (والحزب لا يردّ التكفيريين الى شيء ما يطلق عليه «التكفيرية« بل يردّهم الى «الوهابية« على وجه الاطلاق، دون ان يفصح لنا ما اذا كان يعتبر كل وهابي تكفيرياً). فماذا يسمّي الحزب الفريق المقابل للتكفيريين؟ التنويريّون؟ اللاتكفيريّون؟ لا. هو يقول ان هؤلاء يكفّرون كل من ليس معتقده معتقدهم، ويكفّرون الناس لأتفه الأسباب. أي أنه يقول إن الصراع بينه وبينهم هو على مفهوم التكفير، ومرجعيته، وضوابطه الشرعية، فهم تكفيريون بلا ضوابط منهجية، وهو تكفيريّ بضوابط منهجية. في الوقت نفسه، منذ تعليق السيد حسن على جريمة تفجير الصحن الحيدري قبل اثني عشر عاماً الى اليوم، يرد الحزب أخصامه هؤلاء الى «ذهنية القرون الوسطى«، بشكل يسيء الى نضارة القرون الوسطى هذه، ويسيء فهم الحركات الاحيائية الدينية العنيفة الحديثة، أو بشكل يختلط فيه التاريخ على المرء، فيحسب أن الحزب يكفر بالقرون الوسطى حبّاً بديفيد هيوم والمدام دو ستيل وعمانوئيل كانط!