قياساً على «ترنّحات» ما راجت تسميته «الربيع العربي»، وعلى تبعية الآليات الديموقراطية للآليات الثيوقراطية و»الحرسية» في ايران، واذا ما وضعنا مفارقات «الديموقراطية الصهيونية» التي يتداول فيها شعب آليات استمرار استعمار شعب آخر وحرمانه حقه في تقرير المصير، يبقى مشروع الديموقراطية التركية الأكثر مدعاة للمتابعة والمراقبة، بعيداً عن ثنائية إما التبجيل وإما الجحود.

حماوة المشهد الانتخابات، وارتباطه بمشروع تبديل الدستور الجمهوري من برلماني الى رئاسي، والوجهات المتقابلة مع وضد هذا الشيء، انطلاقاً من الواقع التركي نفسه، ثم أهمية المسألة الكردية والظاهرة الملفتة لـ»حزب الشعوب الديموقراطي» في هذا المجال، بحثاً عن شراكة تفكّك المركزية والأيديولوجيا الانصهارية الفظّة، كل هذا مما يستحق المتابعة في الجانب العربي من هذا الشرق الذي جمعت لواءه الامبراطورية البيزنطية لقرون مديدة، ثم ورثتها الامبراطورية العثمانية، التي كانت على صعيد التاريخ الطويل الأمد، والى حد بعيد، بمثابة الاستمرارية المتجددة للرابطة البيزنطية ولو بنمط مختلف، ودين مختلف، وواقع محيط مختلف.

واذا كان البعض في تركيا غالى في النوستالجيا العثمانية على نحو فيه افتئات على المآثر الجمهورية الكمالية، بعد أن كان الافتئات حاصلاً في الاتجاه المعاكس، فان اتجاه تركيا للمصالحة انتخابات بعد أخرى، بين الهوى العثماني والمنطلقات الجمهورية، وعلى قاعدة محورية الفكرة الدستورية، وحقوق الانسان والتداول على السلطة، هو اتجاه محمود، مع التخفيف شيئاً فشيئاً من الغلواء الاولترا قومية، بترشيد القومية نفسها وليس الاستغناء عنها، لأن الدول لا تبنى بالأهواء الكوزموبوليتية، أي الكونية المتفلت من كل رابطة ترابية، وفي نفس الوقت لم يعد من الممكن تأجيل التعاطي الجدي مع الحقوق الثقافية والمحلية والشراكة العميقة، لأي قوم من الأقوام في أي دولة، وما الانتخابات البريطانية الأخيرة واكتساح الحزب القومي الاسكوتلندي المقاعد الاسكوتلندية في مجلس العموم سوى شاهد مفصلي، والقضايا ذات الطابع اللامركزي الاثني او المناطقي تفرض نفسها اكثر فأكثر في شتى انحاء اوروبا والهند.

بطبيعة الحال، يشعر الكثير من السوريين بالامتنان لحكومة رجب طيب اردوغان لموقفها المؤيد لثورتهم والمستقبل للاجئين السوريين بشكل واسع النطاق، في مواجهة بعض العلمانيين الذين لم يجدوا كنموذج يبشّرون به للعلمانية في المنطقة سوى مجازر نظام بشار الأسد، هذا النظام المتحالف حربياً مع فصائل اولترا علمانية من صنف «حزب الله» و»عصائب أهل الحق«.

في الوقت نفسه، الانتخابات التركية لا تخاض تبعاً للسياسة الخارجية وحدها، ولو كان الموضوع السوري داخلياً أكثر منه خارجياً في تركيا اليوم، والموقف الهادئ وليس التعبوي ضروري اولاً للترحيب بهذا المشهد الانتخابي المشجّع، وثانياً لانتظار بعض الوقت بغية التملّي بالنتائج وتعليقات الأتراك والمراقبين الأجانب من عواصم أساسية مختلفة. أياً يكن من شيء، كلما كانت تركيا قادرة على التوليف أكثر فأكثر بين عثمانيتها وجمهوريتها وتعددية مجتمعها، كان مبرراً تخفيض رتبة التشاؤم الاقليمي بعض الشيء.