كانت تنتظر شهر الولادة بفارغ الصبر ، وعلى أحرٍّ من الجمر ، وكانت تختار له إسماً من أسماء الأنبياء والثوَّار ، وتخيط ثوباً من شعرها ومن شعر الثورة ، وتحاول أن تفي بالنذور وتوزِّع البخور في المقابر وبعضاً من الأدعية والأذكار...

وكلما أحسَّت بقرب الولادة بذلت نفسها لأعمال الخير وسعت بين المقامات زارعة أقدامها في طرقات الأولياء ، حتى جاءها المخاض وهي تحت فيء نخلة والسعافات تغطي دنس الولادة وحبل الصُرَّة وصوت الموؤدة وخيط البكارة....

وقد قذفت بها الأقدار والأحداث والثورات في لجَّة الحياة الممتلئة بالخطوب والمصائب والمتاعب والأهوال ،ومكتظة بالأديان والشرائع والآيات والترانيم في الكنائس والمآذن والشوارع والطرقات براياتٍ ملوَّناتٍ باسم الدين والإله والجهاد وبشعارات الكرامة.. و

مع ذلك فهي وحيدة لا عون لها وفرغ قلبها إلاَّ من هذه العناوين الحزينة والدينية اللاذعة..

وفرَّت من بيتها في وطنها لأنها لا تريد شيئاً إلاَّ الخلاص من هذه البيئة التي لم تستطع فيها مقاماً ، وتنفَّلت من هذه الشياطين المريدة والملتحية بلحية الإسلام الداعشي والحالشي ، فولَّت وجهها شطر المشرق ظنَّاً بأنها طريق الكرامة

والشرف ، بقيت وحدها في الطريق وقد صحبها الفقر والحاجة والذُل والتهجير ، وبعضاً من جمالها الذي يغري ويطمع بها كلُّ مفسد وما أكثرهم من دعاة وحماة في ساحاتنا ودروبنا العربية والإسلامية الذين يسطون على قوافل العير

الناقلة لبضائع التجَّار من الأقمشة الحريرية الوافدة من الشام ودجلة والفرات والرافدة لملح الأرض التي كثرت فيها بُقع من العشب يكاد لا يرى فيها لكثرة الأجسام البشرية الملقاة فوقه تطهيراً من دنسهم وإستجابة لنداء السماء ، وتلبية

لدعوات الجهاد وإقامة شرع الله على الكافرين والمارقين والخارجين عن إطاعة الدين الحنيف..وأكثرها مُستَّرٌ بأطمار تدل على أنَّ أصحابها من الذين لا يرى فيهم شيئاً سوى قوَّة أبدانهم وإسترسال لحاهم الطويلة فإذا هو إحتاجها

أطعمهم تقوية لأداء الفرائض ، وإلاَّ تركهم وحالهم يتنقلون من دربٍ إلى آخر ومن وطنٍ إلى آخر ومن دولةٍ إلى أخرى ويصطادون من تلك الشرائع صيد العصفور لحشرات الأرض وهوام الهواء...إنها ممرَّات دينية وإسلامية

وجهادية إسفلتية ومقاعد ورايات خشبية مكتظة بأصنافٍ وألوانٍ عديدة من البشر قذفهم الفكر الديني والسياسي والجهادي إلى أقاليم الأرض سائرون شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً يسيرون بلا إنقطاع كعسكرٍ من النمل ليرفعوا وأد

الجاهلية الأولى عن تلك الموؤدة التي وأدوها تحت أديم الأرض...بعضهم يجرُّ رجليه جرَّاً وبعضهم يُسرع مروِّحاً بمناديل وطرابيش بيضاء وسوداء ذوداً عن الكرامة والشرف ، وكأنها قوَّة هائلة على رأسه وفي صدره ، لرفع لواء

الإسلام المحمدي الأصيل..إرتفع صوت الموؤدة بآيات الرحمان " وإذا الموؤدة سُئلت..بأيِّ ذنبٍ قُتلت " وطأطأت برأسها وهي تُتمتم قتل أطفال وسبيُ نساء وهتك أعراض وذبح شيوخ لهو وأدُ للبشرية العربية والإسلامية..وحلفت بربِّ

السماء أنه ليس في الأرض ما يدعونه نسيماً لكان حلفها صادقاً أمام السماء والأرض ، فالشمس في السماء لكن لا تشعر بها في أرض الجهاد ، ولا تراها لأنها مقنعة بقناع الدين الأغبر والكثيف ، ما هو إلاَّ أنفاس الولادة والوعاظ

المتصاعدة من ألوف المداخن وملايين النوافذ ودروب وجبال من الحديد والجمر والقبر وقوافل لا يدرك أولها من أخرها.