من المسؤول عن استغباء الناس وتجهيلهم ، بالتأكيد ليس كلّ الناس ، بل الأكثرية الساحقة منهم، لأنَّ الآخرين على ما يبدو محصَّنون " جينيَّاً أو إكتسابيَّاً" ضد داء الغباء..؟

هل هي السلطة الحاكمة على مرِّ التاريخ ، أم الأحزاب ورجال الإعلام المحنَّطة والموجَّهة ، أم رجال الدين عامَّة وبالأخص المتطرِّفين منهم حتى النخاع ، أم ديوك الأحزاب الموالية للسلطة والملتحفة تحت عباءتها إلى يوم الدين.... ولكي نكون من المنصفين ألا يتحمَّل الناس من الذين ارتضوا الخنوع والخضوع لهذا المرض الغريب ،أن يكون لهم قسطاً كبيراً من المسؤولية عن سبب تفشي هذا الداء المرعب.

هنا لا نبحث عن هذه الأسئلة الكثيرة والخطيرة والمرعبة في آنٍ ، والتي تحوي في مضمونها وطيَّاتها الإجابة عن ذلك ، ولكننا نعتقد وبألمٍ وحسرةٍ أنَّ إنتقال هؤلاء الناس من حالة الإستغباء إلى حالة من التعقُّل المرجو ، الذي يستوجب عليهم تجاوز حالة أنهم يأكلون ويشربون فقط ، لأنَّ من كانت قيمته ما يأكل ويشرب فنهايته ما يخرجه .

ولمن أشكل عليه هذا المعنى ، نسوّق له مثالين كما يحدِّثنا التاريخ وعلى ذمته ومن دون تعليق . الأوّل : في عصر الخليفة المأمون كان الشاعر "العتابي" يسير في شوارع بغداد، وهو يأكل الطعام، وكان ذلك يخالف المروءة "الأتيكيت" لدى أرباب الطبقة العليا، ولذلك إحتج عليه صديقه قائلاً :أتأكل الطعام في السوق ويراك الناس ؟

فقال له العتابي ساخراً : "وهل أؤلئك ناس "، فإحتج صديق العتابي وزمجر، فقال له العتابي : سأريك إن كانوا ناساً ، ثم صعد إلى الربوة ونادى في الناس "يا قوم هلمُّوا أحدثكم عن رسول الله (ص) فتدافع إليه الناس واجتمعوا حوله ،

وأقبل يحدثهم يقول : روى فلان عن فلان عن رسول الله (ص) قال.... وظلَّ يخرج من حديث إلى آخر وقد تعلَّقت به العقول والقلوب والعيون ، وسيطر على المستمعين ، إذا حرَّك يده يميناً تحرَّكت رؤوسهم يميناً ، وإذا أومأ برأسه

يساراً التفتوا يساراً... إلى أن قال لهم : وروى غير واحد (أي أكثر من واحد) أنه (ص) قال : "إذا بلغ لسان أحدكم أرنبة أنفه دخل الجنَّة " ، وسكت... فإذا بكلّ واحد من المستمعين يخرج لسانه يحاول أن يصل به إلى أنفه ، وأصبح

منظرهم مضحكاً ، فالتفت العتابي إلى صديقه ساخراً وقال : هل هؤلاء من البشر..! الثاني : بعد وفاة النبي محمد (ص) أصبح المنبر صالحاً لكلّ من يحدِّث الناس بإسم النبي (ص)... ذات يوم زرع رجل بصلاً في أرض عكَّة

ومحصول البصل لم ينفذ ، فقصد من يحدِّث عن رسول الله (ص) وشكى له الحال ، فوعده ببيع محصول البصل بعد صلاة الجمعة . فصعد الخطيب المنبر وبدأ بخطبته بالحديث فقال : " روى فلان عن فلان عن فلان عن رسول الله

(ص) أنه قال : من له لسان أطول من لسان صاحبه ، فله قصرٌ في الجنَّة أكبر من قصر صاحبه ". ما إن سمع المستمعون حديث اللسان ، حتى بدأ الكل يخرج لسانه وبدأت الأيادي تقيس الألسن "بالشبر والفنديرة " يتباهى الأطول

لساناً ، والمنظر مضحك ، حينها قال الخطيب : قال رسول الله (ص) " من أكل من بصل عكَّة كأنه زار مكَّة ". ما إن سمع الناس حتى وثبوا إلى مزرعة البصل في عكَّة فلم تبقى القشور فضلاً عن البصل