بداية يعرّف العلامة المفكر والاسلامي السيّد محمد حسن الأمين مصطلح “رجال الدين” بقوله انه “يعادل في اللاهوت المسيحي كلمة “الإكليروس”، وهذا المفهوم “الإكليروس”، ينتمي إلى رؤية وظيفة رجل الدين بوصفه ابن الكنيسة او قائدها الذي يتكلم باسمها عن الله، وبالتالي فإن هناك طبقة نشأت عبر تاريخ المسيحية سميت بطبقة “الإكليروس”، وبالنظر إلى الإسلام فإننا نلاحظ أن هذه الطبقة غير مكرّسة في أي نصّ من النصوص الدينية الإسلامية، وبدل كلمة رجل الدين هناك كلمة “الفقيه” أو العالم بالأمور الدينية، وبالتالي فإن ما يصدر عن عالم الدين أو المؤسسة الدينية لا يعبّر إسلامياً عن أي شكل من أشكال الوصاية على الدين أو على المتدينين من البشر وهذا يعني أن كل مسلم هو بصورة ما رجل دين بما لا يتيح لعالم الدين أيّ امتياز يميزه عن غيره، فهو مواطن كالمواطنين الآخرين، له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات التي تشكل جميع المواطنين”.

وحول ما ينبغي عليه ان تكون علاقة رجل الدين بالسياسة يوضح السيّد الأمين: “إن من حق عالم الدين أن يكون مهتماً بل منشغلاً في الأمور السياسية، لكن بوصفه مواطناً وليس بوصفه ناطقاً بإسم الدين يحتكر الكلام والتوجيهات وسنّ القوانين بوصفه قيّما من قبل الله تعالى على تنظيم حياة المجتمع. فرجل الدين يمكنه أن يدعو ويرشد ويعلّم المفاهيم والأحكام الدينية. أما السلطة السياسية فيجب أن تكون ثمرة عقد اجتماعي بين الجمهور وقيادته المنتخبة. إذ لا يمكن أن تكون هذه القيادة شرعية إن لم تكن نتيجة بيعة أو ولاية من الجمهور الذي تحكمه.

ولكن الاسلاميين يرددون دائما ان الاسلام دستور والاسلام دين ودولة، فما هو رأي السيّد الأمين بذلك؟ يجيب سماحته: “إننا لا نرى ما يراه البعض بأن الإسلام دين ودولة في آن واحد. الإسلام دين، ودين فحسب، أما الدولة فهي شأن آخر، إنها إنتاج بشري وإنها تأخذ شرعيتها مما سميناه بالعقد الاجتماعي بينها وبين أفراد المجتمع يصبحون هم السلطة عندما يكونون وكلاء عن الجمهور. واستطرد هنا لأقول أنه من الطبيعي في مجتمع إسلامي، أن يكون التديّن له تأثير على اختيار السلطة وعلى سنّ القوانين التي تطلع بها هذه السلطة ولكنها مع ذلك لا يمكن تسميتها بسلطة دينية”.

وبالنسبة لتجربة الإمام المغيّب السيّد موسى الصّدر في لبنان وعمله السياسي، مقارنة بتجربة الإمام الخميني وثورته في إيران، يقول السيّد الأمين:

كما أسلفنا، فإن من حق رجل الدين أن يدخل مجال الإصلاح السياسي، وللسيّد موسى الصدر دخل هذا المجال وقد اكتسب شرعيته التمثيل السياسي من عدد كبير من المواطنين، الأمر الذي طبعه بطابعين، طابع رجل دين، وطابع رجل سياسة ولم يكن السيد موسى الصدر يدعي أن أفكاره السياسية هي أفكار مقدّسة وأن قداستها هي من قداسة الدين نفسه، بل كان الإمام الصدر من دعاة إصلاح النظام السياسي والإجماع اللبناني على قواعد المدنية والديموقراطية، وعندما أسّس المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى وحركة أمل (المحرومين)، كان غرضه رفع الحرمان الاجتماعي والظلم السياسي عن طائفته، ولم يكن يسعى لقيام “دولة الدينية”.نعم لا بدّ من الإشارة أن مكانته الدينية ساعدت على إضفاء طابع من التقدير والثقة بشخصه، وفي هذه الحدود فإننا لا نرى بأساً من عمل رجل الدين في الشأن السياسي.

أمّا بالنسبة لتجربة الإمام الخميني فهو صاحب دعوة لإقامة دولة دينية محكومة لنظرية ولاية الفقيه التي كان يقول بها، وهذا يتضمن أن شرعية السلطة بنظره ليس مصدرها الشعب أو الأمّة وإنما مصدرها الله سبحانه وتعالى، وبالتالي فإن المعبّر عن هذا المصدر هو الفقيه، ولكن رغم ذلك فإن الإمام الخميني شاء أن يضفي على السلطة السياسية ملامح من طابع الدولة الديموقراطية التي تشتمل على مؤسسات منتخبة من الشعب، ولكن يبقى القرار الحاسم من وجهة هذه النظرية أي ولاية الفقيه هي للفقيه الأعلى المعيَّن من مجلس فقهاء، وبالتالي تظلّ الشرعية الحقيقية للسلطة مرتبطة بمبدأ ولاية الفقيه.

غير أن السيّد الأمين يشير الى أن “الثقة بالإمام الخميني نفسه كقائد ثورة وفقيه كانت عارمة وقويّة، وهو لم يجبر الشعب الإيراني على الخضوع لرأيه بل أجرى استفتاء على الدستور الاسلامي نال أغلبية ساحقة في ذلك الزمان، ولكننا نعتقد أن قيام الدولة الدينية هو مرحلة مؤقتة، فالزمن يتقدّم والعقليات تتطوّر، بدليل أننا نتابع حركات واتجاهات متعددة في إيران تدفع باتجاه تطوير النظام وجعله نظاماً مدنياً بالكامل.

ويخلص السيّد الأمين لنتيجة “أن الفرق شاسع بين مشروعي الإمام الخميني والإمام الصدر، الأول مشروع ثورة لاقتلاع نظام وإبداله بنظام آخر، فيما الإمام الصدر حاول أن ينجز عملية إصلاحية سياسية واجتماعية داخل النظام والمجتمع اللبناني وأنا أفترض أن الدور الذي اطلع به الإمام الصدر هو دور طبيعي كان يمكن أن يطّلع به سياسي ذو مستوى رفيع دون أن يكون رجل دين، أما الذي قام به الإمام الخميني فقد قام به بوصفه مرجعاً دينياً كبيراً وأقام قواعد فكرة الثوري على أساس نظريته الدينية المشهورة وهي ولاية الفقيه”.