ليس «حزب الله» في الوضعية المريحة. لا يعني ذلك أنه مهدَّدٌ استراتيجياً في لبنان وسوريا. لكنه اليوم يخوض أثقل المواجهات في سوريا منذ اندلاع الحرب، ويستعدُّ للقلمون. وأما في لبنان، فيحاول التفلُّت من «الانشغالات الصغيرة» التي تفرمل تفرُّغه للملف الأساس، أيْ السوري. ولذلك، كان ضرورياً تمرير الأزمة مع العماد ميشال عون «بلا زعل». فالوقت ليس مناسباً للزعل.

تقرأ طهران وحلفاؤها، ولاسيما الرئيس بشّار الأسد و»حزب الله»، في كثير من الإهتمام، ما جرى من تطورات عسكرية في سوريا. فتقدُّم المعارضة، بسيطرتها على جسر الشغور وإحكامها على إدلب، وتهديدها بالتوسُّع في حلب وحماه... وبلوغها ريف اللاذقية، كان مفاجئاً ويؤشِّر إلى معطيات جديدة.

فالمعارضة حاولت طويلاً التقدُّم عسكرياً لكنها فشلت. وهي لم تكن لتنجح لولا الدعم العسكري النوعي، ولاسيما بالصواريخ المضادة للمدرعات، من تركيا، مع توقعات بحصولها على صواريخ مضادة للطائرات. والواضح أنّ واشنطن سمحت لتركيا، وللسعودية، بإيصال دعم إلى المعارضة المعتدلة، بعدما كان الدعم ممنوعاً، خوفاً من انتقالها إلى التكفيريين.

وهذا التغيُّر كان نتيجة للقرار بدعم القوى السنّية المعتدلة. فالسعودية واجهت الحوثيين في اليمن، فيما كانت تواصل حربها ضد «القاعدة» والجماعات الإرهابية الأخرى.

وجاء دعم المعارضة المعتدلة في سوريا ردّاً على استفزاز إيران للسعودية في اليمن. وواضحٌ أنّ الضغط على نظام الأسد لن يؤدّي إلى إسقاطه، لكنه سيشكّل ورقة ضغط على إيران: سوريا مقابل اليمن. وإذ بات الساحل، قلب المنطقة العلوية، مهدَّداً بنيران المعارضة، فهذه الورقة لن تستخدم إلّا إذا إستخدمت إيران مجدداً ورقة الحوثيين لتهديد الخليج.

ولوحظ انتعاش المعارضة السورية بعد ارتباك داخلي، مقابل ارتباك داخلي للنظام بعد تماسك داخلي. ولم تظهر قبل اليوم تفسُّخات في الهيكلية الأمنية، وربما السياسية، المحيطة بالأسد (رستم غزالة وعلي الملوك أخيراً). ويترجم هذا الإرباك حجم الخروقات التي ربما نجحت أجهزة دولية وإقليمية في إحداثها داخل الدائرة الضيقة المحيطة بالأسد، إضافة إلى محاولة العديد من الأركان البحث عن مخارج لأنفسهم.

وتالياً، تبيَّن أنّ ما يسمّى «صموداً» للنظام أو لخصومه في سوريا، لا يعدو كونه ترجمة لإرادة دولية- إقليمية. فالأسد لم يسقط ليس لأنه قوي عسكرياً ومتماسك، بل لأنه خط أحمر دولي وإقليمي. وفي وقت سابق، خاف الأميركيون والأوروبيون وعرب الإعتدال من خروج المارد التكفيري من القمقم في سوريا وانقضاضه على الجميع. وعرف الأسد كيف يستثمر هذا الخوف لتبرير استمراره.

وفي المقابل، لم تتقدّم المعارضة، ليس لضعفها فحسب، بل لقرار بإبقائها عند مستوى من الضعف والتفكك، مقابل القرار بمنع سقوط النظام. فالمطلوب إستمرار الحرب المذهبية حتى شعار آخر، وعلى كلّ طرف أن يحافظ على منطقة لنفوذه.

في ظلّ هذه المعطيات، يبدو «حزب الله» أمام مهمات أشدّ صعوبة. وتوسيع رقعة المعارك في سوريا يفرض عليه توزيع مقاتليه من الجولان ودرعا إلى حلب وحماه واللاذقية، مروراً بدمشق وأريافها. وهو خصوصاً منشغل بالتحضير لمعركة القلمون التي يستعد الجميع لها بعد استكمال الاستعدادات، ولو تأخَّرت.

وهي لن تحسم السيطرة على طريق دمشق- الساحل فحسب، بل أيضاً ستقرّر مَن يسيطر على المعابر نحو لبنان وبلدات لبنانية عدة في محاذاة الحدود. وفي عبارة واحدة: إنّ معركة القلمون هي أبرز المحطات المنتظرة في الحرب السورية. وفي أيّ حال، سيدفع «الحزب» أثماناً جديدة في سوريا، من مقاتليه، مع ما يتركه ذلك من تأثير في جماهيره اللبنانية.

وجاء انتصار المعارضة أخيراً في جسر الشغور وكامل سائر محافظة إدلب ليطرح أسئلة جدية على النظام و»حزب الله» حول ما يمكن أن تنتهي إليه معركة القلمون. فالمعارضة بدت أكثر ارتياحاً وتستعدّ لتكرار النموذج في القلمون وسواه، وأما «الحزب» فيبدو أكثر تيقُّظاً.

وبعد سقوط إدلب، سُمِعت اتهامات من جانب بعض الدوائر الحليفة للنظام بأنّ «الحزب» يولي الجنوب ودمشق والساحل أهمية تفوق المناطق الأخرى، لأنّ هذه المناطق الملاصقة لمناطقه في لبنان تعنيه جغرافياً أكثر من سواها. وقد يكون ذلك مبرَّراً. فقدرات «الحزب» لا تسمح بتغطية مثالية لكلّ المناطق.

ويستنفر «الحزب» كلّ طاقته في لبنان، ويريد أن يكون للجيش دور رئيسي في أمن البقاع والضاحية، كي يتفرّغ مقاتلوه لسوريا. كما يطمح إلى دعم له في القلمون.

ويقف «الحزب» في وضعية حساسة. فهو لا يريد خسارة أيّ ورقة لبنانية، فيما هو يقاتل للاحتفاظ بأوراقه السورية. ولذلك، سيمرِّر «الحزب» أزمة التعيينات الآتية من دون أن يزعِّل العماد عون، ولكن من دون أن يحقِّق له مطالبه الصعبة. ولن يأخذ «الحزب» مسؤولية الرفض في صدره كي لا تقع الواقعة مع عون، بل ستتكفَّل بأمر التمديد قوى أخرى في 8 و14 آذار على حدّ سواء.

ويقول المتابعون لموقف «الحزب» إنه يراهن على أنّ «الجنرال»، على رغم غضبه، يعرف أنّ حدود اعتراضه لا يجوز أن تبلغ إسقاط الحكومة. ومنذ عشر سنوات، لم يقبل عون بمعظم التسويات، لكنه لم يتمرّد على «الستاتيكو»، ربما لعدم الرغبة أو لعدم القدرة. هكذا فعل منذ الدوحة إلى التمديدين للمجلس النيابي وتعذّر التوافق عليه كرئيس للجمهورية، إلى تأليف الحكومات.

وهكذا، يستعدّ «حزب الله» لتطوّرات إقليمية مصيرية، ويتجنّب أن تغرق قدماه في الرمال اللبنانية، فيما هو ذاهب إلى الجبهة خارجاً. وهاجسه حالياً هو الدفاع عن موقع يمكن أن يخسره الأسد في صراع استراتيجي في سوريا، لا البحث عن موقع يمكن أن يكسبه عون في صراع موضعي في لبنان. فمعركة «الحزب» صعبة، وأصعب ما فيها أنْ لا مفرَّ منها.