في تاريخ البشرية ترسيمة لصورة الحاكم لم تتبدل إلا في المنعطفات التاريخية. مرت الصورة-الترسيمة في ثلاث مراحل كبرى. في الأولى كان الحاكم في مقام الله أو في مقام الانبياء، كما في بدايات حكم الفراعنة، في الثانية صار ممثلا لله على الأرض كما في كل أنظمة الحضارة الاقطاعية، الملكية والسلطانية والأمبراطورية وما شابهها، وفي الثالثة صار ممثلا للشعب كما هي الحال في الأنظمة الديمقراطية الحديثة المنبثقة عن الحضارة الرأسمالية.

لكل مرحلة طقوسها. في البداية كانت عبادة الحاكم وفي الثانية الولاء له، وحين صار للشعب رأي وقرار تحولت الطقوس إلى انتخابات وصناديق اقتراع ونقد وتنافس.

في الأولى والثانية كان الحاكم يشبه ملكة القفير. تصير ملكة بالغذاء المخصص لها. القفير بنحلاته العاملات يصنع الملكة بالغذاء الملكي. هكذا كانت تتم تنشئة الملوك، كان لكل ولد من أولادهم  مربون وخدم وحشم يصنعون له مجدا ملكيا حتى ولو لم يبلغ سن الرشد. هو الملك، إذا مات الملك،  حتى لو كان دون السن. هو أمير المؤمنين حتى لو كان يتلمس خطواته الأولى إلى المعرفة. هو الراعي والناس رعية. هو يرعاهم بالرعي والرعاية معا.

في الثالثة لم يبق من أبهة الملوك شيء. صار الملك رئيساً والرعية شعباً والممالك جمهوريات تحكمها الدساتير. والثالثة لم تكتمل بعد، فهي بدأت منذ قرنين ونصف، وهي في طريقها من سجن الباستيل في فرنسا حتى أقاصي العالم. وهي كموج البحر تتشكل في عمق المياه وتنكسر على الشاطئ عندما تصطدم باليابسة، وهي الآن تتكسر على شاطئ النظام العربي اليابس.

وفي التاريخ أيضا يكون الانتقال من مرحلة إلى أخرى هو الأصعب. فيه تتشوش الرؤيا والصور، صور الحاكم وكذلك المعاني والأفكار. في المنعطفات قد يحكم اللصوص وقطاع الطرق أو أنصاف المجانين أو المهرجون، وقد يتحول الحكم إلى مسرحية هزلية أو مزحة سمجة، بانتظار أن ترسو السفينة في بر أمانها الجديد، ويقوم حكم جديد ويتبوأ السدة حاكم "مطابق للمواصفات" المستبد والوحش والمهرج هي نماذج المرحلة الانتقالية. هتلر أبرزها في العالم، القذافي أبرزها في العالم العربي، وليس من السهل تصنيف قادة آخرين حكموا في مصر أو السودان أو سوريا أو العراق أو في أوغندا أو في كوريا. كما ليس من السهل تصنيف آخرين لم تتح لهم الظروف، لحسن حظ شعوبهم، أن يحكموا أو أن يتعمم حكمهم كما في القاعدة  و طورا بورا و دولة الخلافة و بوكو حرام ، أو في بلديات الأردن في السبعينات وبلديات الجزائر في الثمانينات، أو في مجاهل أفريقيا ودكتاتوريات أميركا اللاتينية.

من الثابت أن حكامنا العرب الذين واكبوا مرحلة الانتقال إلى الجمهوريات المستقلة كانوا أكثر "مطابقة للمواصفات" ممن أتوا بعدهم، ولاسيما الذين اغتصبوا السلطات واحتكروها وعلقوا الدساتير، وأعادوا الحكم فيها إلى عهد الوراثة أو إلى "الحاكم إلى الأبد". في تونس ومصر تمضي عملية الانتقال بوتائر سريعة وبأقل الخسائر الممكنة. وبمقاييس الديمقراطية، شكري القوتلي في سوريا والملك فيصل ونوري السعيد  في العراق أفضل من حكام البعث، والمهدي في السودان أفضل من عمر البشير وجعفر النميري. في الجزائر ارتضى الشعب على نفسه أن يكون مادة لسخرية العالم حين ذهب إلى صناديق الاقتراع وانتخب مرشحاً منقولاً على حمالة المرضى.

في لبنان إصرار وإجماع على إفراغ فكرة الانتخابات من مضمونها وعلى إفراغ رئاسة الجمهورية من دورها. المجلس النيابي والمرشحون والقوى السياسية كلها ماضية نحو مسخرة الاستحقاق و"هركلته"، فهي تلعب، أمام "الرعية" بل رعايا الطوائف، مسرحية هزلية ليس في الحوارات القائمة بشأنها ولا في الترشيحات ولا في التصريحات أي شيء جدي فيها. لكنه هزل من صنف التهريج.

ليس في هذا ما يثير العجب، لبنان اليوم يمر في أصعب لحظات المرحلة الانتقالية  ومسرحه السياسي الراهن يتسع لأكثر من مهرج. لكن ما يثير العجب أن المتفرج اللبناني يضحك على الهزل والتهريج، وشر البلية ما يضحك، وهو يرضى على نفسه أن يرقص "كالطير مذبوحا من الألم".