حسم اتفاق الطائف هوية لبنان العربية، وقد جاء في الفقرة باء من المادة الأولى أنّ "لبنان عربي الهوية والانتماء، وهو عضو مؤسس وعامل في جامعة الدول العربية وملتزم بمواثيقها..".

حسم الجدل في هوية لبنان ليس مسألة عابرة، ولا هو تفصيل في المسار اللبناني الحديث. فالمسيحيون "تذاكوا" في محاولة تمييز لبنان عن الحيز العربي العام، وأسقطوا موقفهم السياسي من "السياسية العروبية" على البعد الثقافي والحضاري للعروبة، وذهبوا بعيداً في نبش التاريخ، وإن لم يكن قصدهم القطع مع محيطهم بقدر تخصيص لبنان بشخصية مستقلة. لكنّهم في المحصلة أخطأوا وربما دفعوا ثمن خطيئتهم، إذ أنّ الانتماء الى المجال العربي ليس انتماءاً جينياً بقدر ما هو انتماء حضاري وسياسي، وهنا مربط الفرس. فالمسيحيون وخصوصاً الموارنة كان يجب أن يدركوا محاذير محاولتهم تمييز لبنان، وربما أنفسهم، عن المجال العربي، خصوصاً أنهم أكثر "الأقليات"، إن لم يكن الأقلية الوحيدة في المشرق العربي، التي استطاعت أن تتطور و"تتمأسس" في ظل الإسلام لا بل في أوج الإسلام الأمبراطوري وليس قبله، وهذا ما كان يجب أن يكون سبباً كافياً ليدرك الموارنة "جنون" محاولاتهم للتميّز عن العروبة، لاسيما في الجوانب الثقافية والحضارية، باعتبار أن العروبة السياسية، لا سيما بنسختها البعثية السورية، لم تكن نموذجاً يحتذى به. لكن حتى الإعتبار الأخير ما كان يجب أن يشطح بهم إلى خطاب سياسي وثقافي يؤسس إلى تشكيك جمعي بالحيز العربي، وقد دفعوا ثمن ذلك ولعلّهم يتعلمون. اليوم ثمة من يعتبر أن جزءاً كبيراً من اللبنانيين الشيعة الموالين لحزب الله باتوا يميزون أنفسهم، بوعي أو من دونه، عن المجال العربي العام، أو هم يصورون هكذا من جانب خصومهم، وفي الحالتين خطر عليهم أولاً، وعلى لبنان ثانياً. فمهما قال السيد حسن نصرالله أن حزب الله لا يتلقى أوامره من إيران، فهذا لا ينفي أنّ حزب الله، بنظر كثيرين في لبنان والعالم العربي، جزء من المشروع الإيراني في المنطقة. وحتى لو سلّمنا بأنّ قرار حزب الله مستقل لكنه حليف أساسي لإيران ومنسجم مع سياستها في الإقليم، فذلك لا يغيّر كثيراً في كون أي موقف يصدر عنه يقرأ انطلاقاً من السياسة الإيرانية وطموحها التوسعي في المنطقة. وهذا ما يضع حزب الله في موقع العداء للإجماع العربي والخارج عليه، والمقصود بالإجماع هنا ليس الإجماع الرسمي على مستوى الحكومات، بل الإجماع على مستوى الأكثرية الشعبية التي يستفزها تدخل إيران في دول المنطقة، وهذا ما يفسّر القابلية الشعبية لأي تحرك عربي في مواجهة التوسع الإيراني، بغض النظر عن الموقف من الحكومات العربية القائمة بهذا التحرك. فانتقاد السياسة العربية جائز ولا يمكن لأحد أن يمنع أحداً منه، لكن صياغة هذا الانتقاد يفترض أن يصاغ بـ"لغة" عربية حصراً.

ثمة في هذا السياق ما يتخطى الموقف السياسي "الطبيعي". تأييد السياسة الإيرانية في المنطقة ليس موقفاً "طبيعياً" بالنسبة للغالبية العربية التي ترتاب من الطموح الإيراني في الإقليم وتشعر بأنّه عدائي تجاهها، خصوصاً بعد حديث المسؤولين الإيرانيين عن سيطرتهم على أربع عواصم عربية وعن امبراطورية فارسية عاصمتها بغداد. صحيح أنّ إيران استفادت من "الفراغ الاستراتيجي" العربي ومن عدم الاستقرار في المنطقة لتوسّع نفوذها فيها، لكن الصحيح أيضاً أنّها اتكأت في سعيها هذا على مكونات من داخل الجسم العربي أهمها حزب الله، وهذا ما لا يبدو أن العرب يسلّمون به، وهذا ما يفترض بحزب الله أن يأخذه في الحسبان لأنّ ايران في آخر الأمر تلعب خارج أرضها، وفشل مشروعها الإقليمي سيؤدي إلى انسحابها إلى داخل حدودها، لتترك "حلفاءها" في المدى العربي يواجهون ما تسببت به سياساتها من شرخ مجتمعي وضعهم في مواجهة مواطنيهم وصورّهم  كساعين إلى مشاريع خاصة سياسة وربما ثقافية وحضارية. فالخوف الحقيقي أن يؤسس الخطاب السياسي الذي يعتمده حزب الله، مثلاً، إلى تأبيد "الحالة الانفصالية" لدى جمهور الحزب ومناصريه عن المجال العربي، معنوياً و"ثقافياً"، وقد بدأنا نسمع ونقرأ في أوساط الحزب عن العرب الفاشلين والعاجزين، وهذا ليس، في عمقه، سوى تشكيك في الانتماء العربي ورغبة في الإنقلاب عليه، ما يعني بصيغة أخرى رغبة في الخروج من المجال العربي، لكن إلى أين؟ فلبنان عربي وليس ذا وجه عربي وهذا ما يجب أن يفطن إليه حزب الله وحلفاؤه من المسيحيين، وربما سواهم أيضاً.  

 

 

بقلم: إيلي القصيفي