فجّر انتهاء الحرب الباردة عدداً من الحروب لم يخمد بعضها حتّى الآن. حصل ذلك في يوغسلافيا السابقة وفي تشيشنيا وفي بقاع من الاتّحاد السوفياتيّ وكتلته الشرقيّة السابقين. ولم تنجُُ رواندا وبوروندي من آثار ذاك الحدث الضخم.

 

 

لكنّ انتهاء الحرب الباردة أنهى، أو بدأ ينهي، حروباً مزمنة أخرى جذورها ضاربة في الحقبة الكولونياليّة. هكذا ختُمت على نهاية سعيدة دراما جنوب أفريقيا ونظامها العنصريّ، وانطلقت المسيرة نحو حلّ سلميّ للنزاع المديد في إيرلندا الشماليّة. كذلك لاح أنّ القضيّة الفلسطينيّة ومتفرّعاتها سوف ترسو، بعد مؤتمرات مدريد في 1991 وأوسلو في 1993 ووادي عربة في 1994، على حلّ معقول. بيد أنّ الأمور عادت لتتعقّد، بل ازدادت سوءاً، على الجبهة الفلسطينيّة – الإسرائيليّة، تماماً كما ساءت على جبهة المسألة الكرديّة التي وسمت بدورها تاريخ القرن العشرين في بلدان شرق أوسطيّة عدّة.

 

 

ووفقاً لأيّ قياس مقارن، يمكن القول إنّ الإرادة الدوليّة في جنوب أفريقيا وشمال إيرلندا بدت أقوى وأفعل منها في منطقة الشرق الأوسط. وما لم يتحقّق في ظلّ إرادة دوليّة واحدة، سيكون أصعب على التحقّق في ظلّ ظهور المطامح الإقليميّة لبلدان تدخّليّة كروسيا وإيران.

 

 

على أنّه بالعودة إلى ذاك الزمن، زمن انتهاء الحرب الباردة، يبقى أنّ ما أضعف الإرادة الدوليّة، في الشرق الأوسط، جسّده عدد من العوامل في عدادها كثرة الأطراف المعنيّة بالنزاع، وبالحلّ المنشود تالياً. وكانت التجربة الفلسطينيّة قد أوضحت غير مرّة كيف أنّ «قوميّة المعركة» التي يُفترض بها منع استفراد الفلسطينيّين، لم تفعل غير استفراد الفلسطينيّين من قبل الأنظمة العربيّة ومصادرة قرارهم في العالم الخارجيّ.

 

 

تُسترجَع هذه الوقائع على هامش الرسالة التي وجّهها عبد الله أوجلان من سجنه، حيث حضّ مقاتليه في «حزب العمّال الكردستاني» على التوصّل إلى «قرار تاريخيّ» يفضي إلى «حلّ ديموقراطيّ» ينهي ثلاثين سنة من العنف والقتال.

 

 

لكنّ الدرس الأوّل الذي يُستخلَص هنا، لا سيّما إذا اتّعظنا بمسار النزاع الفلسطينيّ – الإسرائيليّ، وتعدّد الناطقين بلسانه باسم العروبة، هو ضرورة أن يُصرّ أكراد تركيّا على أنّهم أكراد تركيّا، وليسوا أكراد أمّة تركيّة مستحيلة عابرة للحدود. فهذا وحده، إذا ما خلصت نيّات الحكومة التركيّة، وهو أمر ليس محسوماً بالطبع، كفيل بتلخيص قوى النزاع، ومن ثمّ قوى الحوار والحلّ.

 

 

صحيحٌ أنّ المنطقة تتعرّض اليوم لإغراء «داعشيّ» يتمثّل في تجاوز الحدود. وقد راجت مؤخّراً، على هامش معركة كوباني، تصوّرات تؤكّد على بُعد كرديّ عابر للحدود لا تعوزه التعابير السياسيّة والأدوات التنظيميّة. لكنّ الصحيح أيضاً أنّ هذا ليس كافياً بتاتاً لإنجاز المطلق الكرديّ، علماً بأنّه كافٍ لتعطيل النسبيّ الكرديّ الممكن.

 

 

والخيار هنا قد ينحصر بين مواءمة الزمن الكونيّ، وساعتُه لا تزال ساعة الدولة – الأمّة على رغم تحدّياتها جميعاً، ومواءمة زمن «داعش» الذي، على رغم نجاحاته الكبيرة التي لا يُستهان بها، لن يكون له أفق على المدى البعيد، ولا يستحقّ، في أغلب الظنّ، أن يكون مرجع تقليد.