يبدو أن بعض الأطراف المحلية تنسى، أو تتناسى!، أن لبنان هو بلد المعادلات والتسويات، وأن أي خلل في المعادلة الوطنية، الحسّاسة والدقيقة، يؤدي إلى تعطيل النظام، ويهدّد مسيرة الدولة، ويُدخل البلاد والعباد في دوامة من الخوف والقلق!
وشغور منصب رئاسة الجمهورية أحدث خللاً في المعادلة الوطنية، وامتداداتها السياسية والدستورية، سُرعان ما انعكس سلباً على إنتاجية الحكومة السلامية، وتعطيلاً لنشاط مجلس النواب، الأمر الذي يشكّل خطراً على مقومات الجمهورية، وقواعدها الأساسية!
وعوض أن تنصرف الأطراف السياسية المسيحية إلى البحث عن الصيغة المناسبة للإسراع في إنهاء الشغور الرئاسي، وقعت تلك الأطراف في فخ الخلافات الحزبية والشخصية، التقليدية منها والمستجدة، مما أدّى إلى حفلة مستمرة من المزايدات والمناكفات بين ممثليها في مجلس الوزراء، أوصلت جلسات الحكومة إلى حالة من التعطيل والشلل.
كان لا بد للرئيس تمام سلام أن ينتفض على هذا الواقع التعطيلي، بعد محاولات حثيثة لمعالجة هذه المعاناة المريرة، بعدما اعتبر كل وزير نفسه رئيساً للجمهورية ويتمتّع بصلاحيات خارقة، في مقدمتها حق الفيتو، والتي لا تمتّ أصلاً إلى صلاحيات رئيس الجمهورية الدستورية بصلة!
لم يشفع للرئيس سلام مطالبته الدائمة بإعطاء الإنتخابات الرئاسية الأولوية المطلقة،
ولم تنفع حكمة رئيس الحكومة وهدوءه وصبره، في معالجة الخلافات وتطويق المناكفات الشخصية والكيدية بين الوزراء،
ولم يفلح حامل تراث «التفهّم والتفاهم» في إقناع الوزراء بالعودة إلى مناخ الحوار والتوافق، للحفاظ على فعالية السلطة الإجرائية، واستمرار الحكومة الائتلافية بمسؤولياتها الوطنية، في هذه المرحلة الحرجة!
  
ليس دقيقاً الكلام بأن الرئيس تمام سلام خرج عن النص الدستوري، وضحّى بصلاحيات رئيس الحكومة، عندما قبل باعتماد صيغة «التوافق» في مجلس الوزراء.
المادة 65 من الدستور نصّت بوضوح على اعتماد «التوافق» في قرارات مجلس الوزراء، في حال التعذّر يتم الإنتقال إلى التصويت، واعتماد التصويت بالثلثين في القرارات الوطنية الكبرى، التي حددها الدستور، وبأكثرية النصف زائد واحد في القرارات العادية.
وإعطاء الدستور الأولوية للتوافق، لا يحتاج إلى كثير من التفسير والتفصيل، لأن روح الميثاق الوطني اللبناني، في طبعتيه الأولى عام 1943، والثانية عام 1989، عبر اتفاق الطائف، هذه الروح تقوم على التوافق في المسائل الوطنية، وإبّان المراحل والأزمات الحرجة، على نحو الأزمة السياسية التي يتخبّط فيها البلد حالياً، بسبب هذا العجز الفاضح للطبقة السياسية في إجراء إنتخابات رئاسية.
والأمثلة على التوافق، كمبدأ ميثاقي وطني، عديدة، لعلّ أبرزها إعتماد المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، دون الأخذ بالفارق العددي بين الطرفين، وكذلك تحديد طائفية الرئاسات الثلاث، في إطار من التوافق كعرف وطني، دون أي نص دستوري، في جمهورية 1943.
وثمّة فارق كبير بين «التوافق» و«الإجماع»، سواء في العرف الميثاقي، أم في النص الدستوري.
التوافق، لا يعني، ولا بأي تفسير إجتهادي، تأمين الأجماع، بدليل أن التوافق بين اللبنانيين على اتفاق الطائف بقي خارج حسابات الإجماع، بسبب عدم انضمام بعض الأطراف المحلية إلى مسيرة الطائف، وفي مقدمتها العماد ميشال عون، الذي كان رئيساً لنصف الحكومة العسكرية، المشكوك بشرعيتها، والذي كان يحتل قصر بعبدا، وخاض حرب الإلغاء ضد القوات اللبنانية التي وافقت على الطائف، وحاول الوصول إلى عدد من النواب، تهديداً وتفجيراً، لأنهم صوّتوا مع الميثاق الوطني الجديد في الطائف.
وهذا يعني ببساطة ان التوافق يتجاوز مطبات التعطيل، في حين ان الإجماع عرضة للوقوع في فخ الخلافات والتعطيل كلما دقَّ الكوز بالجرة!!
  
والمتتبع لتجربة الحكومة السلامية مع الفراغ الرئاسي، ان رئيسها حرص منذ اليوم الأول على التأكيد بأن حكومته لا تقوم بمقام رئيس الجمهورية وإن كان الدستور ينيط بمجلس الوزراء مجتمعاً صلاحيات الرئيس، وإن الوضع السياسي والدستوري لا يستقيم في ظل غياب رئيس الجمهورية، وبالتالي فإن الإسراع بإجراء الانتخابات الرئاسية في أقرب فرصة ممكنة، هي مسؤولية وطنية بامتياز، ملقاة على عاتق كل الأطراف السياسية.
وذهب الرئيس سلام في خطابه الوطني هذا، إلى حدّ تطمين الشريك المسيحي، بحرصه على تفعيل المشاركة في قرارات السلطة الاجرائية، شرط تجنّب الوقوع في شرك التعطيل،وكان أن تجاوزت آلية العمل في مجلس الوزراء العديد من المطبات، دون التوقف عند الإجماع، وغابت تواقيع بعض الوزراء عن بعض القرارات إما لأسباب السفر أو عدم الموافقة على القرار، دون أن يؤدي كل ذلك إلى تعطيل انتاجية الحكومة.
ولكن المشكلة برزت مؤخراً عندما استنفدت التنافسات الانتخابية بين بعض الوزراء واستفحلت الخلافات الحزبية بين البعض الآخر، وأغرقت جلسات مجلس الوزراء في مناقشات وسجالات بيزنطية، عطّلت فرص الوصول إلى اتخاذ القرارات المناسبة.
  
هل تبقى جلسات مجلس الوزراء معلقة إلى حين العودة إلى نقاوة التوافق؟
لا يمكن أن تبقى جلسات الحكومة متوقفة إلى ما شاء الله، وليس أمام رئيسها، ومعه كل الأطراف السياسية الأخرى، الا العودة إلى «الكتاب» كما كان يردد باني مؤسسات الدولة فؤاد شهاب، أي العودة إلى الدستور الذي ينص في المادة 65 على اعتماد التوافق، قبل الذهاب إلى التصويت في مجلس الوزراء.
ومرة أخرى..،
التوافق لا يعني الإجماع، وهو مبدأ ميثاقي بامتياز لا يتطلب التصويت!