على مواقع التواصل الاجتماعي شريط فيديو جديد خالٍ من الوجوه وزاخر بالاصوات وبالغ الدلالات: طنين مروحية تحلق على علو مرتفع، خلف الكاميرا صوت هادىء يحذر من انها على وشك ان تلقي حمولتها، ثم فجأة تخرج من بطنها تلك الكتلة الرمادية، لوهلة تبدو وكأنها طائر مهاجر ضل سربه، لكنها سرعان ما تهوي بسرعة، فيبدأ الصوت بالتكبير المتكرر، ويتسارع الدعاء بتسارع هبوط الكتلة على البيوت، حتى تكاد تنقطع أنفاس الداعي- المصور وتتوقف دقات قلبه، وقلب المشاهد.. تدور الكاميرا لنحو دقيقة بحثا عن جبل النار والغبار المتصاعد من داخل القرية الصغيرة، فلا تجده..

البرميل لم ينفجر، إستُجيب الدعاء، نجا العشرات من الموت المحتم، الذي سبق ان حصد عشرات الالاف من القرويين السوريين الذين لم يسبق لهم ان شاهدوا في سمائهم مروحية، ولم يسمعوا مثل هذا الدوي الهائل، ولم يتوقعوا ان تتحول قريتهم بلحظة الى ركام بفعل ذلك الطائر الغريب الذي يتسبب هبوطه المفاجىء في توسيع المقبرة الوحيدة الصغيرة التي كانت تضم رفات السابقين الى هذا الحد.

ينتهي الشريط الذي امتد لثلاث دقائق عند هذه اللقطة، من دون ان يعبر الصوت عن الشكر او النصر او التحدي او حتى التشفي. كأن الكاميرا تنتقل بسرعة الى قرية أخرى يتوقع أهلها ان يحلق في سمائهم ذلك الطائر الرمادي الداكن، ليلقي حممه على سكان الارياف جميعاً على امتداد مساحة الوطن المنذور للخراب.. ويضيف الى الاحصاءات رقماً مروعاً لا يسجل الا على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا يؤثر الا في بعض المراكز الانسانية الدولية.

في مستهل الحملة الضارية التي شنها النظام على كارهيه السوريين، كانت هناك علامات استفهام تتردد بين حين وآخر: هل يمكن لتلك الالة العسكرية ان تتعب، ان تتعثر، ان تفتقد الى الذخيرة؟ لا يمكن لسلاح الجو السوري أن يظل على هذا المنوال من الغارات اليومية المتلاحقة؟ لا بد ان ينضب ذلك المخزون من صواريخ سكود وفروغ وغيرها، برغم المدد الايراني والروسي اللامنقطع؟.. لا يمكن ان تكون البراميل المتفجرة هي البديل الدائم، على الرغم من رخصها وسهولة تصنيعها وبساطة إلقائها وعشوائية أهدافها التي تكبر يوما بعد يوم. الشريط القصير الذي ينتهي من دون سماع الدوي الهائل او ارتفاع الكتلة النارية والرملية الضخمة، لم يكن الاول من نوعه. قرى عديدة نجت من المذبحة بتلك الصدفة، او ربما بذلك التسرع في التصنيع والتجهيز والالقاء لذلك البرميل المحشو بالبارود. لعل المخزون يتراجع، ومعه الشعور بلا جدوى إصرار النظام على حرق سوريا او على الاقل المساحة العاصية منها. الاستنتاج سابق لاوانه بعض الشيء، لكنه- معطوفاً على معركتي أرياف درعا وحلب الاخيرتين- يصبح مؤشراً، بل ربما منعطفاً في الحرب.

في هاتين المعركتين اللتين خسرهما النظام معاً ولم يستطع الاحتفاظ بقرية واحدة من القرى التي اقتحمها على الجبهتين، بل تعرض لقصف صاروخي اصاب معاقله البعيدة، كان هناك ما يوحي بان حملته العسكرية تقترب من ذروتها النهائية، وهو لا بد ان يتوصل عاجلا أم آجلا الى الاستنتاج بان هذا هو المدى الابعد الذي يمكن ان تصل اليه قواته المتضائلة عدداً وعدة، ما اضطرها الى الاستعانة اكثر من اي وقت بحلفائها من الميليشيات اللبنانية والعراقية والفلسطينية والايرانية..

لغة النظام ما زالت توحي بانه ماضٍ في الحرب حتى النهاية. وطبيعة المعارضة تنذر بان تلك الحرب ما زالت في بدايتها.. ولم يكن الشريط المصور لذلك البرميل المتفجر الذي لم ينفجر سوى عارضٍ، يختلط فيه صوت الدعاء مع سكون الخاتمة المؤجلة لذلك الخراب السوري العميم.