يبدو «تيار المستقبل» اللبناني في حواره مع «حزب الله»، ممثِّلاً أهل الضعف في الطائفة السنية في لبنان، فيما «حزب الله» قوي في مفاوضته «المستقبل» قوته على الأرض وتحتها. فنتائج هذا الحوار حتى الآن كشفت أن «المستقبل» «دفع» فواتير مسبقة، فيما الملفات الرئيسة التي قيل إن الحوار سيشملها والتي تفترض خطوات من «حزب» الله ما زالت خارج الاتفاق.

 

 

هناك قوتان طائفيتان تتحاوران، تمثل كل منهما الطائفة الأكبر في لبنان. وبما أننا حيال تعريف بهما عارٍ من أي وهْم، يجب أن يُستكمل هذا التعريف بكلام «طائفي» أيضاً لا يقيم وزناً لما عداه من أوهام. يجب أن نقول مثلاً إن قرار إقفال المبنى «ب» من سجن رومية والذي كان يضم إسلاميين سنّة جعلوا زنزاناتهم فيه مناطق نفوذ وغرف عمليات خارج السجن، وقرار توزيعهم وفصلهم عن بعضهم بعضاً، هما ورقة قدمها «المستقبل» على مذبح مفاوضاته مع «حزب الله».

 

 

قرارات الحكومة الأخيرة في ما يتعلق باللاجئين السوريين، الهدف الأول منها تخفيض عددهم عبر التضييق عليهم بطرق لا يقبلها منطق ولا عقل، بالإضافة إلى جعل احتمال اللجوء إلى لبنان من قبل أي سوري أمراً شبه مستحيل. هذا الأمر تولاه وزيران في هذه الحكومة من تيار «المستقبل»، هما وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق ووزير الشؤون الاجتماعية رشيد درباس، والقرار إذا ما قيس بالمعايير الطائفية في لبنان، وهي المعايير الوحيدة المعمول بها، يُشكل حاجة فعلية لـ «حزب الله» فيما هو بالنسبة إلى «المستقبل» خسارة كبيرة لأنه يطرح على القاعدة الطائفية للتيار، أي الطائفة السنية، عبء تخليها عن إغاثة لاجئين سنّة هاربين من الموت. وبهذا المعنى يكون «المستقبل» قد ألقى بورقة ثانية على طاولة مفاوضاته مع «حزب الله».

 

 

أما الورقة الثالثة، فهي تسهيله عمل الأجهزة الأمنية والعسكرية اللبنانية في مدينة طرابلس والشمال، وتأمينه غطاء سياسياً لتوقيف مئات المسلحين الذين تشكل بيئتهم الاجتماعية والطائفية حاضناً لـ «المستقبل» وداعماً انتخابياً وسياسياً لخياراته.

 

 

يجب رفع القبعة لـ «المستقبل» على خطوتيه الأولى والثالثة، أما الثانية فالثمن الذي دفع لـ «حزب الله» يبدو أخلاقياً أيضاً، فالقرارات الجديدة المتعلقة باللاجئين السوريين معيبة في حق مَنْ يعترف لهؤلاء بأنهم بشر، هذا قبل أن يعترف لهم بأنهم ضحايا نظامهم. وأن يكون على كل لاجئ أن يدفع 200 دولار عن نفسه ومثلها عن كلٍّ من أولاده لتعترف الدولة اللبنانية به كـ «نازح»، لا كـ «لاجئ»، فإن في ذلك دفعاً له لكي يعود إلى جحيم الموت الذي ينتظره في دمشق وأريافها. ووزراء «المستقبل» ليسوا بعيدين عن هذه القرارات وعن الخطوات التنفيذية المرتبطة بها.

 

 

ولكن، بالعودة إلى الخطوات المحمودة التي خطاها «المستقبل»، وهي تفكيك المبنى «ب» من سجن رومية وإعطاء غطاء سياسي وطائفي للأجهزة الأمنية والعسكرية للإمساك بالوضع في طرابلس وتوقيف أمراء محاور القتال، فهذه الخطوات يمكن تقويمها، بالمعايير اللبنانية، بصفتها إيجابية وضرورية، لكنها بالمعايير الطائفية تبقى في سياقها التبادلي. ومن المفترض أن تكون جزءاً من خطوات يُجزى «المستقبل» على تسهيلها.

 

 

حتى الآن، لا يبدو أن «حزب الله» في وارد أن يضع أوراقاً فعلية في مفاوضته «المستقبل». لا وهمَ لدى أحد بأن المشاركة المتعاظمة للحزب في القتال في سورية يمكن أن توضع على طاولة تفاوضه مع «المستقبل»، بل إن قرار الحزب المشاركة في الحوار مع «المستقبل» له علاقة بحاجته لتبريد ساحته اللبنانية كي ينقطع للقتال في سورية. هذه الحاجة لا يبدو أنها كانت جزءاً من حسابات «المستقبل» التحاورية.

 

 

تخفيض عدد اللاجئين السوريين إلى لبنان أيضاً جزء من حاجات الحزب في معركته السورية، ذاك أنه انتقل للقتال هناك، في وقت انقلبت الموازين الديموغرافية الطائفية على نحو يهدد نفوذه، فكانت قرارات الحكومة الأخيرة. وحاجة «حزب الله» هذه، التي لا يمكن تلبيتها من دون «المستقبل»، أيضاً لم تكن جزءاً من أوراق «المستقبل» التفاوضية.

 

 

فلا يبدو أن «المستقبل» توجه إلى الحوار وفي حوزته تصور واضح عما يريده، وهو، وإن كان لا يساوره شك في أن القتال في سورية لا مكان له على طاولة حواره مع «حزب الله»، فإنه لا يطمح أيضاً إلى تقاضي أثمان تلبية الحاجات اللبنانية للحزب في معركته السورية. اقتصر ما قُدِّم إلى «المستقبل» حتى الآن على قرار بنزع الصور من الشوارع والساحات، علماً أن الأخير كان أكثر من أصابته سهام طائفته على هذا القرار، وأيضاً تجريد حملة أمنية على عصابات سرقة السيارات والإتجار بالمخدرات في مناطق نفوذ «حزب الله» في البقاع.

 

 

لا يبدو أن مسألة «سرايا المقاومة»، وهي ميليشيا مسلحة شكلها الحزب في مناطق نفوذ «المستقبل»، مطروحة على الحوار. وكذلك وضع العاصمة بيروت، التي أنشأ فيها الحزب مربعات أمنية واسعة تشتعل رصاصاً وقذائف وصواريخ ما أن يُطل الأمين العام لـ «حزب الله» في أي مناسبة. والحال أن ذلك خلّف حنقاً فعلياً على تيار «المستقبل» في بيئته ومناطق نفوذه، ذاك أن تبرع التيار بما تملكه الجماعات السنية اللبنانية من وسائل منازعة واضطراب، لم توازِه خطوة فعلية واحدة من «حزب الله».

 

 

يُجادل «المستقبل» في أن الخطوات التي أقدم عليها، ليست فواتير للحزب وإنما حاجات وطنية لا بد منها لحماية لبنان، وهو محق في هذه الوجهة فعلاً، لكن أكلافها الطائفية كبيرة، والمزاج السني اللبناني يتهاوى تحت ضربات طائفية لا يجد «المستقبل» من يُبادله تنازلاته لكي يُخفف منها.

 

 

أما الأفدح في هذا الوئام اللبناني المختل، فيتمثل في تلك القرارات التي اتخذت على وقع الحوار والمتعلقة باللاجئين السوريين. نعم، هناك أزمة طائفية خانقة في لبنان، وأزمة اقتصادية موازية، ووضع أمني هش، لكن هناك حقيقة أكبر. ثمة مجزرة في الجوار، ولن ينجو بلد يجاور مجزرة من تداعيات ما يُجاور.

 

 

لا حل لهذه المسألة إلا إذا عدنا من القتال في سورية، شيعة وسنة، وهو أمر ليس في يدنا فعله.