"الدقيقة بتمرُق دهر". يصعبُ وصف ثِقل الوقت الذي يختبره أهالي العسكريين المخطوفين بعدما عاودوا نَصبَ خيَمِهم في رياض الصلح، بعد العاصفة. أسِرّةٌ، فُرشٌ، تلفاز، طاولات، أدوات مطبخية، أغراض شخصية... لا يوحي المشهد بفرَج قريب. "يكاد يمرّ نصف عام على اختطاف أولادنا، عائلات تشرّدَت، أحلام تكسّرَت، منازل أقفِلت... حياة نختصرها بخيمة"، هذا لسان حال الأهالي.

 

يكفي تعداد زرازير السجائر في محيط اعتصام أهالي العسكريين المخطوفين لمعرفة حجم معاناتهم، والنار المتّقدة في صدورهم وراء صمتِهم المؤقّت. "على رغم أنّ الطبيب حرمَني من التدخين، بعدما كنتُ أنهي علبةً في اليوم، تكاد 3 علَب سجائر لا تكفيني ليوم واحد".

 

بأسى يتحدّث والد الجندي المخطوف أحمد عباس لـ"الجمهورية"، بعدما أصَرّ على تركِ عائلته وأولاده الخمسة وأحفاده، ومتابعة قضية ابنِه، على رغم وضعِه الصحّي الدقيق، وتقدُّمِه في العمر.

 

يصعب على ذاك الرجل الستّيني إخفاء دمعتِه، يروي وفي صوته تهدُّج: "إبني كان معبّي البيت، آخر حبّة في العنقود، محِبّ، حنون، وكأنّه قطعة منّي، أكلني الشَيب وأنا أنتظره، لم أتوقّع يوماً مثلَ هذه الآخرة، ولكن بقوّة الله سنصمد للنهاية".

 

"أكل الفحم أهون"

مقابل خيمة عبّاس خيمة عائلة العسكري المخطوف خالد مقبل حسن، تعلوها صوَرُه مع ولديه، حيث استقبلتنا والدته عائشة. 3 أسرّة، حرامات، وسادات، برّاد لمياه الشرب، ركوة قهوة. "ساعة على الكرسي، وساعة أجلس على الفرشة... "طَق" قلبي من الانتظار...يمكن إذا بتاكلي الفحم أهوَن من هذه العيشة".

 

حياة العائلة برُمّتها تبدّلت رأساً على عقِب، حتى إنّ شقيقة خالد أُجبِرت على ترك مدرستها من دون إكمال شهادتها المتوسطة، تُمضي وقتها إلى جانب أمّها في الخيمة، وهي يتيمة الأب، يتعذّر عليها العيش "آخر ماعمَّر ربّنا في عكّار"، على حدّ تعبيرها.

 

"لا يحلو لهم الحديث إلّا تحت نافذة خيمتي"، تتذمّر أم خالد من التعزيزات الأمنية المتّخَذة ليلاً بين الخيَم، والحركة المتواصلة التي يشهدها وسط العاصمة، على رغم أنّها في كلّ الحالات لا تذوق النوم و 3 أسئلة تشغل بالها: "أكَل خالد؟ شِرب خالد؟ نام خالد؟

 

تأبى هذه الحجّة الانضمام إلى الجلسات الصباحية مع النِسوة، فلا أعصابها تحملها ولا بالها يطاوعها للمسايرة، تستيقظ منذ الخامسة فجراً لترتّبَ خيمتها، وتخرجَ تلاقي حرارة الشمس، مردّدةً سلسلةً من الأدعية، لينتهيَ النهار، وتستقبل آخر، على أمل سَماع بُشرى سارّة ترطّب ظمأها لرؤية ابنها".

 

أمّا وَلدَا خالد اللذان لم يتجاوز عمر كلّ منهما ثلاث سنوات فتجربتُهما مغايرة مع غياب والدهما، قصّةٌ تحبسُ الأنفاس، وتدمع لها العين. فهما يصرّان على حملِ هاتف والدتِهما وتقبيلِ صورة والدهما خالد.

 

وفي وقتٍ يسأل الابنُ مقبل طوال الوقت "وين البابا"، فإنّ شقيقتَه التي لا تقوى بعد على الكلام، تتأمّل حائرةً جدران المنزل، منتظرةً خروجَ أبيها من أيّة غرفة... وبعدما تتعَب من التلفّت يميناً وشمالاً تنفجّر بالبكاء لشدّة حنينها لحضن أبيها.

 

... كي لا تموت القضية

يصعب على حسين يوسف والد محمد ملازَمة مكانه، يُمضي نهارَه متنقّلاً بين الخيَم، مطمئناً إلى الأهالي، متفقّداً حاجاتهم. لا يهدأ هاتفه ولا حركتُه تخفتُ، يرتّب موعداً، يلغي آخر... "المهم أن تبقى قضيتنا حيّة".

 

يوميّاً يحرَص حسين على قراءة الصحف التي تصِله ومتابعة الأخبار على مختلف القنوات، لذا وضعَ بالقرب من خيمته صحناً لاقطاً. "وضعُنا دقيق، نخشى أن يدفنَ الصمتُ قضيتَنا، وفي الوقت عينه الإطلالات الإعلامية قد تعرقل مسارَ الانفراج... نخشى من أن تطول فترة الانتظار، لذا تجَهَّزنا بأغراضنا وأمَّنا قدرَ المستطاع أدنى مقوّمات العيش في الخيَم لنتمكّن من الثبات والتغَلّب على الفراغ".

 

هل مِن تصعيد مرتقَب أو زيارات رسمية؟ يجيب حسين: "بَذلنا كلّ ما في وسعنا لدفع عجَلة التفاوض قدُماً، ولكن بعد لقائنا الأخير مع الرئيس تمّام سلام، ونتيجة الجدّية التي لمسناها وبعد الزيارات الرسمية التي أجريناها، وجدنا أنّه من الأنسب لجمُ التحرّك وإعطاء فرصة لجهود الوسطاء".

 

ويضيف: "سنجدّد حركة زياراتنا المكّوكية، نحن في صَدد الإعداد لزيارة أبَوية في اتّجاه قائد الجيش العماد جان قهوجي، لاعتباره والدَ أولادنا، رؤيتُه تُبرّد قلوبَ الأمّهات، وكلامُه يجدّد الثقة في نفوسهنّ. كذلك قد نزور الرئيس السابق ميشال سليمان".

 

أمّا بالنسبة إلى عمل الوسَطاء، فيؤكّد حسين وجود وسطاء غير معلَنين إلى جانب المعلَن عنهم، "أحمد الفليطي نائب رئيس بلدية عرسال، من الوجَهاء المعتدلين، منذ دخوله إلى الخط عكسَ جوّاً إيجابياً، وأعتقد أنّ حلّ ملف العسكريين من داخل عرسال هو الأنجع... إلى جانب ضرورة التكتّم لخدمة الملف".

 

... للصبر حدود

حسين كغيره من الأهالي لا يخفي خشيته من تحوّل مشهد الخيَم المزروعة في محيط تمثال رياض الصلح إلى مشهد مألوف: "لا نطمئنّ إلّا لحظة عودة أبنائنا... خيَم كثيرة احتضنَتها العاصمة من دون الوصول إلى نتائج إيجابية، ولكنّ مسألة خطف العسكريين قضية جامعة وطنية لا تمثّل طرفاً دون آخر، لذا سنصمد لمدّة يعجز أحد عن تقديرها".

 

خلفَ الهدوء الذي يُبديه الأهالي، عاصفة، وتلويحٌ بإمكانية التصعيد "في أيّ لحظة قد نلمسُ عرقلةً، مساومةً، أو تباطؤاً، وتحرُّكُنا سيختلف عمّا سَبق، فالقضية وطنية ولا تنحصر بأبنائنا".

 

(ناتالي اقليموس)