تيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية كان يكره مدينة القدس ويعتبرها بشعة ومارك سايكس (المفاوض البريطاني في "اتفاق سايكس بيكو") كان يكره حلب والموصل ويراهما قذرتين.

ليبيا بلا رئيس وهناك رئيس وزراء لا‑ يحكم إلا جزءًاً محدوداً من البلد... إذا حكم.
سوريا لديها "رئيس قوي" ولكن على جزء من البلد.
العراق لديه رئيس شبه فخري ورئيس وزراء ذو صلاحيات ولكن على بلد مقسّم.
لبنان دولة من دون رئيس على بلد هش ومجتمع يجهد لتجديد معاني علاقته ببعضه البعض.
والآن اليمن الذي لم يبقَ فيه إلّا الرئيس المحاصَر في قصره أو "السجين"فيه وربما لاحقاً الهارب منه ولكن الدولة متلاشية بين أجزاء متناحرة.
جيلي في العالم العربي هو جيل صَرَف معظمَ عمره السياسي على اعتبار المشكلة الجوهرية في حياتنا العامة، هي استبداد الأنظمة السياسية. وعندما خُيِّل إلى هذا الجيل أن مشكلة الاستبداد شارفت على نهايتها اعتباراً من العام 2011 تبيّن له أن العدد الأكبر من بلداننا العربية ترتبط فيها وحدة الدولة بقوة النظام بمعنى استبداده وأن الديموقراطيّة تعني تفتيته.
"اكتشف" جيلنا معادلاتٍ كثيرةً لم يكن يهتم بها سابقا بل كان يحاربها وفي مقدِّمها أن هذه الكيانات التي مَنَحَنا إياها سايكس بيكو - ولا يجب إنكار أن الجيل السابق علينا جمّلها وحوّلها إلى وطنيّات- أن هذه الكيانات كانت مشاريع تماسك مقبولة ولم تأتِ عموما سوى بجهود استشراقية سابقة وعظيمة على مدى أكثر من قرن من الدراسات والاحتلالات لمصر منذ الاحتلال الفرنسي النابوليوني. لم يركِّب سايكس بيكو دولاً فقط بل ركّب مجتمعاتٍ. ففي تقسيم آخر كان يمكن أن يكون صدّام حسين، لأنه ابن تكريت، مواطنا سوريا وبالتالي رئيسا لسوريا كما كان يمكن لحافظ الأسد لو ضُمّ ريف اللاذقية إلى "دولة لبنان الكبير"أن يكون لبنانيا والأرجح دون أن تُتاح له وفقا للتوزيع الطائفي فرصة أن يكون رئيسا على هذه الدولة، دولة لبنان الكبير. قال مدير المركز الثقافي التركي في بيروت في مقالٍ ننشر حلقته الثانية في عدد اليوم من "قضايا النهار"أن مساحة ولاية بيروت وحدها في العهد العثماني والممتدة من اللاذقية إلى نابلس كانت ثلاثة أضعاف مساحة "لبنان الكبير".
من الثابت حسب نصوص نشَرها جايمس بار في كتابه "خط في الرمل" (2011 - منشورات سيمون شاستر - ص 10) أن مارك سايكس بعد رحلة إلى المنطقة أيام الدولة العثمانية رافق فيها والده ووالدته كتب يصف "قذارة" مدينة حلب و"بشاعة"مدينة الموصل المليئتين "بالأوبئة". كما أن الكاتب الإسرائيلي يوري أفنيري كتب مؤخرا في عموده الأسبوعي (3-1-2015) نقلاً عن مداخلة كان قدّمها أمام مؤتمر عن "علاقة الأيديولوجيا بالأركيولوجيا"... كتب أنّ تيودور هرتزل مؤسسَ الحركة الصهيونية حاملةِ مشروعِ دولةِ إسرائيل كان يكره مدينة القدس ويعتبرها بشعة.
إذن نحن أمام استعمار لا يوصَف بكلمات عادية: اثنان من أبرز ثلاثة رموز تأسيس خارطة المنطقة الجديدة ودولها التي لا نزال نعيش ضمنها بعد تسعين عاما هما سايكس وهرتزل كانا يكرهان المدن التي استخدما كل دهائهما ونفوذهما للسيطرة عليها: البريطاني سايكس في ما خصّ الموصل التي انتزعها من خصمه الفرنسي وحلب التي تركها له. وهرتزل الذي خلّف لنا ديناميّات إراقة دماء بالأطنان لأجل مدينة مقدّسة كان هو شخصيا يكرهها. وهذا يدفعني للسؤال ما إذا كان جورج بيكو الفرنسي يكره بيروت حيث ترك في القنصلية الفرنسية التي كان هو رئيسها مع اندلاع الحرب وثائقَ بأسماء من كانوا على علاقة سياسية ومالية معه من وجهاء بلاد الشام بمن فيهم اللبنانيّون ممّا سمح للحاكم العسكري لسوريا جمال باشا بإدانتهم وإعدامهم بتهمة العلاقة مع العدو في زمن الحرب... هذا إذن يدفع للسؤال ما إذا كان بيكو أيضا يكره بيروت وهذا ما لم أقرأ أي مستنَد يؤكِّده!! لكن صنعاء، عاصمة اليمن، كانت محظوظة أكثر بنوع "كراهية" شاعرها عبدالله البردوني حين قال في قصيدته الشهيرة:
ماذا أحدِّثُ عن صنعاءَ يا أبَتي...
مليحةٌ عاشقاها السِّلُّ والجرَبُ
أفتَرِض أننا نحن أبناء المنطقة، مقيمين ومغتربين، من كل الأجيال نحب بلداننا ونحب أكثر مدنَنا العريقة مثل حلب والموصل وطرابلس ودمشق وبالتأكيد القدس وحزنُنا على بعضها التي أصابها جراد التدمير والهمجيّة كحلب والموصل وحمص أكبر وأعمق أما القدس فخوفنا عليها دهري. ولا حاجة الآن لذكر حاضرات كبيرة أخرى. يكفي ما لتجربة الحرب الأهلية اللبنانية وتدميرها أولاً لبيروت من معانٍ لا تُنسى.
انهيار المدن هو انهيار المجتمعات وليس الدول فقط. لذلك في المشرق يغيب الرؤساء حيث تغيب الدولة و"يغيب" المجتمع وتختلُّ المدن.
فهل سيكون علينا نحن الباقين في هذه المنطقة أن نُمضي ما تبقّى من أعمارنا ونحن نفكِّر ونعمل في اتجاه مختلف عمّا كنا نفعله سابقا: إثبات أن الديموقراطية لا تفجِّر الدول والمجتمعات!