على رغم فظاعة ودناءة الإرهاب الذي وضع «شارلي ايبدو» على كل لسان، ما حدث في باريس هذا الشهر لا يشبه أبداً إرهاب 11 أيلول (سبتمبر) الذي ضرب نيويورك وشلّ واشنطن وأطلق حرباً أميركية في العراق وأفغانستان. القاسم المشترك هو أن إرهاباً إسلامياً ضرب في مدن غربية، وان القيادات الاستخبارية الدولية ستضع أمام القيادات الحكومية كل خيار متاح لها لإِبعاد الإرهاب عن مدنها من جديد ليبقى في سورية وليبيا واليمن والعراق.

فتدفق الإرهابيين الغربيين والآسيويين إلى المنطقة العربية بعيداً عن واشنطن ولندن وموسكو وباريس يبقى هدفاً غير معلن لقيادات عديدة. الجديد هو نمو ظاهرة الإرهابيين الغربيين غير المسلمين والآسيويين غير العرب الذين يُرعبون جميع أولئك الذين اعتقدوا أن حرب سورية جمعت الإرهاب في بقعة واحدة وأعطت الفرصة للقضاء عليه بعيداً عن مُدنهم. اليوم، الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند أو الأميركي باراك أوباما ليسا وحدهما خائفين من عمليات إرهابية في فرنسا والولايات المتحدة.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ربما هو أكثر قلقاً من انتقام إرهابي في عقر داره لأنه اعتقد أن حرب سورية مفيدة لإبعاد الإرهاب عن مدنه وجيرته المباشرة. الكثير سيحدث عند وضع الاستراتيجية الدولية الجديدة لمكافحة الإرهاب بعدما طال باريس.

قمة واشنطن الشهر المقبل ستشهد ولادة تحالف آخر الأرجح أن يضم روسيا وإيران وإسرائيل وربما يكون تحالفاً موازياً للتحالف القائم ضد «داعش» الذي تقوده واشنطن ويشارك فيه حلفاؤها الخليجيون. في خضم هذه التحالفات العسكرية والأمنية، لا يوجد مؤشر على أي استعداد للإقرار بأخطاء ارتكبتها قيادات هذه الدول ساهمت في تفريخ الإرهابيين. وليس هناك دلالات على معالجة سياسية جذرية وجدّية للأزمات والصراعات تفيد بحسن نوايا اللاعبين الدوليين في سورية واليمن والعراق وليبيا وإسرائيل وفلسطين وإيران وغيرها. وتلك هي المشكلة الأساسية التي تُنذر بالأسوأ.

 

 

ليبيا أولاً، حيث فرنسا لعبت دوراً قيادياً في عهد نيكولا ساركوزي الذي تأبط حينها الفيلسوف الفرنسي برنار هنري ليفي وامتطيا معاً حصان اقتحام ليبيا للقضاء على الطاغية باسم الحرية و «الربيع العربي». ليس واضحاً اليوم ماذا كان في ذهن فرنسا حينذاك عندما جهّزت العمليات العسكرية قبل موافقة حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وحشدت الدعم العربي وراءها بدءاً من دول مجلس التعاون الخليجي، فانطلقت إلى ليبيا للتخلص من معمر القذافي.

 

 

فلنقل – لمجرد تجنّب الخوض في هذه الناحية – أن المصالح النفطية الفرنسية لم تكن في أعلى سلّم أولويات الأليزيه وأن الهدف كان حقاً دفع ليبيا خارج بوتقة حكم الطاغية لتعيد اختراع نفسها وتبني نفسها من جديد دولة مدنية غنية بالموارد الطبيعية قادرة على بناء المؤسسات.

 

 

ماذا حدث إذن؟ كيف حدث وأن جميع دول حلف «الناتو» هرولت إلى عملياتها العسكرية في ليبيا ثم هرولت من ليبيا من دون مد يد المساعدة لبناء المؤسسات الضرورية التي تمنع انهيار البلاد؟ فالجميع كان يدرك تماماً انه في حال ترك ليبيا بلا معونة في بناء نفسها كدولة مدنية، ستتحول إما إلى دولة فاشلة، أو إلى ساحة مفتوحة أمام التطرف الإسلامي وجرائم الانتقام وتفريخ الإرهاب.

 

 

وقعت ليبيا في أيدي الفساد بشق المُفسدين والقابلين للفساد، فأصبح «حقوقي» الأمس طاغية من الطغاة الجدد. فُتِحَت أبواب ليبيا أمام جميع أصناف الإسلاميين من «الأخوان المسلمين» إلى «القاعدة» و «داعش». بات نفطها لعنتها مجدداً. مات مئات الآلاف من الليبيين وعادت ليبيا إلى الوراء بلا اهتمام فرنسا ولا أخواتها في حلف شمال الأطلسي. لاحظ الرئيس أوباما أن خطأً حدث في حق ليبيا. لام عليه الأوروبيين أساساً فأعطى نفسه ورقة إعفاء حين قال آخرون إن ما حدث في ليبيا كان في الأساس قد صُنِعَ في واشنطن وقامت باريس بتنفيذه على طريقتها البهلوانية.

 

 

وهكذا بين بهلوانية القذافي وبهلوانية دول حلف شمال الأطلسي، تحوّلت ليبيا الغنية بالموارد الطبيعية والجمال من دولة الطاغية إلى دولة الطغاة الجدد بمختلف جنسياتهم وهوياتهم وأجنداتهم وبكلفة باهظة على الليبيين.

 

 

واليوم نسمع تكراراً أن ليبيا بالطبع كانت مُستَهدفة إنما المستهدَف الآخر هو مصر، إذ إن ليبيا تبقى خاصرة مصر الضعيفة إذا استمر الوضع فيها على ما هو عليه بلا معالجة جذرية جدية.

 

 

نسمع أن ما تريده دول غربية هو استدراج مصر عسكرياً إلى ليبيا لتوريطها هناك كي لا تتمكن مصر من التعافي جدياً وتأخذ مكانها ومكانتها في موازين القوى الإقليمية. فلو اتخذت مصر قرار التدخل عسكرياً في ليبيا لتمكنت من ربح المعركة عسكرياً بلا جهد كبير. إنما أي تدخل عسكري يتطلب المواكبة عسكرياً عبر البقاء في البلاد. وهذا تماماً ما يجعل مصر واعية جداً لأخطار الوقوع في فخ التورط العسكري في ليبيا لتواجه معارك استنزاف مع قوى «داعش» و «القاعدة» التي انتشرت في ليبيا في أعقاب المغامرة الفرنسية على متن حصان ساركوزي – ليفي وما تلاه من هرولة ملفتة أسقطت ليبيا في الدوّامة.

 

 

فرنسا لا علاقة لها بالأخطاء التي ارتكبتها الولايات المتحدة وبريطانيا في العراق إذ إنها عارضت التدخل العسكري الأميركي – البريطاني الذي قاده جورج دبليو بوش وتوني بلير باسم مكافحة انتشار السلاح النووي وبتهمة ملفّقة حول امتلاك العراق قدرات نووية كانت العاصمتان تعرفان تماماً أن العراق لم يمتلكها.

 

 

صراحة بوش أوضحت الغايات الحقيقية وراء حرب العراق التي قرر خوضها مباشرة في أعقاب إرهاب 9/11، وذلك عندما أعلن أن هدف حربه على الإرهاب في العراق هو منع خوض تلك الحرب في المدن الأميركية. نجح بوش في إبعاد الإرهاب عن المدن الأميركية. إنما حربه على الإرهاب في العراق ساهمت في إنماء الإرهاب والتطرف الإسلامي. وبالتالي، أتت المعالجة الأميركية للأولوية الأميركية لتصنع تطرفاً قادراً على الانتشار والانتقال من العراق إلى اليمن إلى سورية.

 

 

تبنى باراك أوباما وفلاديمير بوتين والقادة الأوروبيون استراتيجية جمع الإرهابيين في مكان واحد لتطويقهم في حروب بعيدة عن مدنهم، فوجدوا في سورية ملاذاً. إنما ليس ممكناً أن يقال – أو يُظنّ – أن هؤلاء القادة لم يكونوا يدركون أن إطالة الصراع في سورية ستؤدي إلى تطوير قدرات الإرهابيين بجميع أنواعهم لدرجة التمكن من جذب المتطوعين من أوروبا وأميركا واستراليا وروسيا والجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى للجهاد في سورية.

 

 

ربما كانت تلك رغبة مبطنة أو استراتيجية مدروسة. واقع الأمر أن حدث باريس هذا الأسبوع فتح صفحة أخرى في تلك الحرب الممتدة عبر القارات المعروفة بالحرب على الإرهاب.

 

 

اليوم تقول روسيا: أنا هنا. وهذا يناسبها لأنها في حاجة لتحويل الحديث بعيداً عن مغامرتها في أوكرانيا وما أسفرت عنه من جفاء مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحتى مع صديقة روسيا الكبيرة، المستشارة الألمانية انغيلا ميركل. يريد فلاديمير بوتين أن يبذل قصارى جهده ليكون شريكاً في قمة واشنطن في 18 الشهر المقبل التي ستطلق على الأرجح تعاوناً استخبارياً متطوّراً إلى جانب إيلاء مهام موسعة لوزارات الداخلية على نسق وزارة الأمن الداخلي التي يرأسها جاي جونسون والتي لها صلاحيات استثنائية في الولايات المتحدة.

 

 

إيران تقول أيضاً: أنا هنا. تقولها بطرقها الخاصة علماً بأن تعاونها لن يكون علنياً ومباشراً في قمة واشنطن وإنما سيكون عملياً وعلى الأرض كما يحدث في العراق مع أنها ليست طرفاً مباشراً في التحالف ضد «داعش».

 

 

إسرائيل ستوظّف كل فرصة يقدمها لها التطرف الإسلامي لتجعل منه ذخيرة ضد الفلسطينيين وهي ستقف على أهبة الاستعداد للاستفادة من التركيز العالمي على الإرهاب الإسلامي.

 

 

أوروبيا تخشى إفرازات تجنيد ما يقارب ثلاثة آلاف أوروبي جهادي في العراق أو سورية بعدما قال المنسق الأوروبي لمكافحة الإرهاب أن 30 في المئة منهم عادوا إلى دول الاتحاد الأوروبي. فالأوروبيون يشعرون أنهم اليوم مهددون «من الداخل والخارج» كما قال فرانسوا هولاند، وهم سيتأهبون ويتدارسون إصدار قوانين استثنائية ذات يد طائلة.

 

 

يبقى أن المشهد المرعب الآخر الذي ظهر في الإعلام هذا الأسبوع – إلى جانب اعتداء باريس – هو ذلك الفتى من كازاخستان المسمى «شبل الخلافة» وهو يعدم «جاسوسين روسيين» بإطلاق النار من مسدس بأيد ثابتة ونظرات ثاقبة ووجه يقارب الطفولة المغتصبة. وحقاً انه لمشهد مرعب.

 

 

يبقى أيضاً كلمة ضرورية عن المجلة الساخرة «شارلي ايبدو» وحرية التعبير. أن لمهنة الصحافة والصحافيين امتيازات فوق العادة إذ لنا حق طرح أي سؤال وكتابة أي رأي. فنحن ما يسمى بـ «السلطة الرابعة». إنما مع الامتيازات، علينا مسؤوليات وواجب التقيد بـ «أصول المهنة». إننا نتمتع بذلك القدر من الامتيازات لأن واجبنا التنبه إلى المصلحة العامة ومحاسبة الذين يتعدّون عليها. وبالتالي، ليس من حقنا كإعلاميين وضع المصلحة الخاصة فوق المصلحة العامة. فإذا كان واضحاً أن استفزاز المشاعر الدينية في هذا المنعطف سيؤدي إلى إلحاق الأذى بالمصلحة العامة، لا داعي للاستفزاز لمجرد الاستفزاز تحت عنوان حرية التعبير. فلا ثقافة الاستفزاز الفارغ ولا ثقافة التحريض جزء من صلاحيات الإعلام المسؤول.

 

 

أما وأن يبرر أي كان، تحت أي عذر كان، قتل الصحافيين أو تشويههم لتلقينهم درساً أو لإسكاتهم، فإن هذا يقارب الشراكة في ارتكاب تلك الجرائم الدنيئة والحمقاء.