في معرض النقاش التاريخي حول أنّ المعيار التمثيلي في رئاسة الجمهورية لم يكن يوماً هو الأساس في حسم هوية المرشح للرئاسة، وانه يكفي استعراض الرؤساء المتعاقبين لتأكيد ذلك، قدمت شخصية مسيحية قراءة ملبنان ما قبل الحرب الأهلية غير ما بعده. سَعيُ المسيحيين لإنشاء دولة مدنية تحترم الطوائف والأديان سقط في ١٣ نيسان ١٩٧٥. محاولة استنساخ تجربة الجمهورية الأولى تبدو مهمة مستحيلة، لأنّ التنوع داخل الطوائف الإسلامية انتهى إلى أحاديّات سنية وشيعة ودرزية.

لا مؤشرات إلى تبدل قريب في هذا المشهد، لأنّ الأزمة الإقليمية تبدو طويلة ويتأثر بها لبنان كثيراً. الطائفة الشيعية قبل الحرب كانت أولوياتها المشاركة السياسية والإنماء المتوازن لإزالة الحرمان، فيما أولوياتها اليوم تبدأ إقليمية وتنتهي نووية.

والطائفة السنية التي كانت مشدودة باتجاه البعد العربي أكثر من اللبناني تحوّلت اهتماماتها، بعد نجاحها في التوفيق بين البعدين العربي واللبناني، إلى مواجهة خطر التطرف السني وتحديات الإسلاموفوبيا في العالم والتبريد مع الشيعي اللبناني. والطائفة الدرزية التي قادت الحرب الأهلية من موقع الحركة الوطنية حَيّدت نفسها عن محاور الصراع السني-الشيعي ولجأت إلى أدوار تعويضية بملفات حياتية.

وأضافت الشخصية المسيحية: لا يمكن للمسيحيين أن يشيحوا بنظرهم عن كل هذه الصورة، لأنّ التحولات في البنية المجتمعية الإسلامية بنيوية.
الرهان على التطورات الإقليمية لإعادة الأمور إلى طبيعتها في لبنان غير كاف، لأنّ هذه التطورات يمكن أن تأتي وأن لا تأتي، أو أن تأتي عكس ما تتمناه هذه الفئة أو تلك.

على المسيحيين أن يحددوا دورهم انطلاقاً من فكرة جديدة. الفكرة القديمة كانت بِنت لحظتها مع سقوط الدولة العثمانية والدخول في رسم كيانات جديدة، فوضعوا أنفسهم حول الطاولة وأنشأوا وطناً على صورتهم مستفيدين من إحباط سني نتيجة انهيار الامبراطورية العثمانية، وانكفاء درزي بعد تجربة المتصرفية، ودور شيعي ثانوي.

والفكرة الجديدة يمكن أن تشكل استمراراً للقديمة، ولكن لا يمكنها ألّا تأخذ في الاعتبار الصراع السني-الشيعي والسعودي-الإيراني وتأثر لبنان بهذين الصراعين. كما لا يمكن ألّا تأخذ في الاعتبار الدورين الإقليميين للسنة والشيعة في لبنان. فلبنان بات محكوماً وحتى إشعار آخر بهذا المعطى الجديد. فالأولوية السنية الشيعية في لبنان تتراوح بين حدين: حدّ تنفيس الاحتقان وحدّ رسم حدود النفوذ وإدارة الصراع بينهما.

وتابعت الشخصية نفسها: الكلام عن تحييد لبنان والسيادة والاستقلال والدولة المدنية جميل. ويجب على المسيحيين أن يواصلوا تمسّكهم بهذه العناوين التي لا يمكن بناء دولة من دونها. ولكن هذه القضايا معلّقة، وهي معلّقة منذ العام ١٩٦٩ وربما تبقى كذلك.

١٤ آذار التي انطلقت بمشروع طموح لاستعادة سلطة الدولة ودورها انتهت بحوار إسلامي وظيفته تأمين الاستقرار تحت عنوان مزدوج: حلّ كل ما يمكن التوافق حوله، وتنظيم الخلاف في كل ما يمكن الاختلاف حوله. الأمور مجمّدة، والحياة السياسية معلّقة، والشعارات البرّاقة ستبقى موجودة، ولكن الأمور على الأرض مختلفة تماماً.

وتساءلت الشخصية: أين المسيحيون من كل هذه الصورة؟ وهل وقوفهم في الخط الطبيعي السيادي يعيد السيادة إلى لبنان في ظل الصراع الإقليمي الكبير؟ وهل وقوفهم في الخط الآخر يرجّح كفة الخط غير السيادي؟ ما يحكم لبنان حتى إشعار آخر هو ميزان القوى السني-الشيعي.

وعلى رغم الصراع السني-الشيعي الديني والسياسي والإقليمي نجح «حزب الله» و«المستقبل» ليس فقط في الجلوس والحوار، بل بالحفاظ على مكتسباتهما في السلطة وتعزيزها، فيما المسيحيون غير قادرين على تنظيم الخلاف بين بعضهم البعض، وخلافهم لا يقاس بالخلاف السني-الشيعي.

فلماذا لا يحافظ كلّ فريق مسيحي على رؤيته للبلد ونظرته لمستقبله مقابل أن يتوحدوا حول الحضور المسيحي في السلطة؟ فالصراع السني-الشيعي لا يؤثر على مواقع نفوذ الطرفين في السلطة، وبالتالي لماذا لا يتم تحييد الحضور المسيحي في السلطة عن هذا الصراع؟

وقالت الشخصية نفسها لو أطلق أحد الوزراء المستقلّين في الحكومة حملة مكافحة الفساد، فهل كانت هذه الحملة حققت أهدافها الإعلامية المرجوّة؟ بالتأكيد كلا، إنما الرافعة الجنبلاطية هي التي شكلت الاندفاعة المطلوبة. وأبعد من ذلك، لو لم يؤمّن سعد الحريري الغطاء السني لدخول الجيش اللبناني إلى نهر البارد، والغطاء لضرب الإرهاب السني في لبنان وإنهاء ظاهرة قادة المحاور وأسطورة رومية، لكان لبنان اليوم في خبر كان.

وفي السياق نفسه هل يمكن تحقيق فرض الأمن داخل أي منطقة شيعية من دون غطاء الحزب والحركة؟ وهل يمكن توفير الغطاء لأيّ مشروع قانون من دون الغطاء السني والشيعي والدرزي؟ وهل كان يمكن تمرير التمديد لمجلس النواب من دون غطاء القوات؟

وخلصت الشخصية المسيحية إلى القول: بما أنّ الغطاء الطائفي هو المعبر لكلّ القضايا السياسية والأمنية والاقتصادية، يعني أنّ لبنان لا يحكم إلّا من خلال الأقوياء في طوائفهم، ويعني أنّ على المسيحيين استنساخ التجربة السنية والشيعية والدرزية... قبل فوات الأوان..