هكذا، لم تعُد الناعمة تتّسع لنفايات لبنان، ولا هي مضطرّة إلى ذلك. وخلال ثلاثة أشهر أو ستة، سيكون لكلّ امرئ أن يتدبّر نفاياته، أمام بيته. فمَن هو هذا الساحر الذي أفتى بلامركزية النفايات... ليطلقَ لامركزيات أخرى؟

إذا صدقت النيّات، ستكون الآليات جاهزة خلال 6 أشهر لإدارة النفايات: شركات مناطقية تتولّى الكنسَ والجمعَ والطمر أو المعالجة. ولأنّ الجميع وافقَ على الحلّ، بعد خمس ساعات ونصف الساعة من المساومات داخل مجلس الوزراء، فمن الطبيعي أن تكون الشركات الآتية محاصَصة للجميع... ولكن كلٌّ في منطقته.

وقد دفعَ موقف النائب وليد جنبلاط الرافض لمركزية النفايات في الناعمة، وموقف الكتائب الداعي إلى لامركزيةٍ «ناعمة» للنفايات، نحو خيارٍ يؤشِّر إلى وثبةٍ جديدة نحو نوع من «اللامركزية الاضطرارية».

ولكن، يجدر التأكيد على عبارة «إذا صدقَت النيّات»، لأنّ هناك مَن يسأل: هل القوى جميعاً، في مجلس الوزراء، وافقَت على لامركزية النفايات بإرادتها، أم أنّ بعضها أراد فقط أن يؤجّل استحقاق المواجهة 6 أشهر أخرى... وبعدها «يخلق الله ما لا تعلمون». وفي عبارة أخرى، إستهلاك الوقت الكافي لإقناع جنبلاط بتمديد جديد للمطمر؟

في السياق المنطقي، سيؤدّي قيام شركات مناطقية للنفايات، بالتنسيق الكامل في الإشراف والتمويل مع البلديات، إلى تقوية المجالس المحَلّية بما يكفي لتدعيم استقلالها الإداري عن المركز. وإذا نجحَت المشاريع المطروحة لاستغلال النفايات الصلبة، في حدود 75 في المئة منها، لتوليد الطاقة الكهربائية والأسمدة، فإنّ ذلك سيزوِّد هذه المجالس بمزيد من الدعم المالي وإمكانات الحصول على الطاقة ذاتياً.

وهناك نموذج قديم العهد في لبنان، هو إمتياز كهرباء زحلة منذ العام 1923. وإذ كانت زحلة تستجرّ من مؤسسة كهرباء لبنان حاجتها من التيّار (60 ميغاواط)، فقد باتت اليوم، بمعدّاتها الجديدة، قادرة على إنتاج كمّية الكهرباء التي تفوق ما يجري استجراره، وهي مؤهّلة لتزويد المدينة و17 بلدة بالطاقة، من أصل 30، وهي تطلق الوعود بكهرباء 24 على 24، وبأسعار مناسبة. وهو ما لا تحظى به أيّ منطقة تعتمد المركزية الكهربائية التي تزداد تردّياً على رغم مرور ربع قرن على انتهاء الحرب الأهلية.

ويمكن للنموذج الزحلي أن يتعمّم في المرحلة المقبلة، إذا نجحَ المشروع المناطقي لأزمة النفايات، كمشروع إصلاحي، له مردود مثلّث الأبعاد: إداري واقتصادي وبيئي. وقد يفتح الباب لخطوات أكثر اتّساعاً في اللامركزية، وعلى مستويات أخرى، ضمن منطق التوافق الذي أرساه بندُ اللامركزية الإدارية في الطائف، والذي يتعثّر تنفيذه من دون مبرِّر.

ويجدر التذكير بأنّ المحاصصة الخبيثة كانت السبب في خسارة لبنان فرصة تاريخية للإفادة من النفط والغاز، في فترة ارتفاع الأسعار، وقبل أن تسبق لبنان دوَلٌ شرق أوسطية أخرى إلى أسواق أوروبا.

وعلى رغم ذلك، يتنكّر كثيرون للّامركزية الإدارية والإنمائية. وأمّا اللامركزية السياسية، فيحاربها الأقوياء المتفائلون بانتصارهم عاجلاً أم آجلاً في الشرق الأوسط كلّه. ولذلك، فإنّ هؤلاء يفضّلون إحكامَ قبضتهم على دولة مركزية في لبنان.

ففي العراق وسوريا تنهار الدولة المركزية القابضة على الجميع وعلى كلّ شيء، وتتكرّس التفسّخات على الأرض مذهبياً وعِرقياً... حتى بات الحلم هو الاكتفاء باللامركزية أو الفدرالية التي تُبقي على وحدة
الأرض والشعب.

أمّا في لبنان، فالتركيبة فدرالية منذ 1920. لكنّ الفدرالية مشوَّهة. ويمكن تنظيفها من الشوائب لتلائم بناء الدولة العصرية. ويمكن أن تترافق مع الإقرار الأكيد بحياد لبنان عن الصراعات الإقليمية. وعندئذٍ يصبح لبنان أكثر مناعةً في وجه العواصف. واللامركزية قد تكون البديل الإصلاحي الآمن لاستمرار لبنان والحؤول دون تفكّكه.

ويمكن في هذا المجال استيحاء النموذج اللامركزي العراقي، الناشئ بعد سقوط الرئيس صدّام حسين، حيث لمجالس المحافظات دورٌ فاعل، حتى في إدارة الأمن الداخلي. وحيث لكلّ محافظة أن تتحوّل إلى إقليم، أي أن تحظى بالإدارة الذاتية، إذا أقرّ أهلها بذلك في استفتاء.

طبعاً، لا يسمح ملف هامشيّ، وهو ملف النفايات، بالاسترسال في بحث الشؤون الاستراتيجية، كاللامركزية باعتبارها نظاماً إصلاحياً عصرياً. ولكن، هل بات الوقت ملائماً لبحث المسائل الجدّية في لبنان؟ وفي عبارة أخرى، هل يبدأ بحثها «في النفايات»؟ أم تذهب بها المصالح المتصارعة «إلى المطمر»؟