حدثان ملفتان هذا الأسبوع يشيران إلى تصحيح في مسيرة التغيير في المنطقة العربية التي سُمِّيت «الربيع العربي» قبل أربع سنوات. تونس، أولى محطات المسيرة، عادت إلى العلمانية – بمعنى فصل الدين عن الدولة – بعدما حاول «الإخوان المسلمون» إلغاء أهداف «ثورة الياسمين» بمصادرتهم الانتفاضة التونسية وفرض الدين على الدولة. فوز الباجي قائد السبسي بالانتخابات الرئاسية شهادة واضحة على عزم الأكثرية التونسية على إقرار مبدأ التعايش بين الإسلام المعتدل وبين الدولة – وهنيئاً لتونس بهذا الإنجاز المهم. مصر، ثاني محطات مسيرة التغيير، أحبطت مشروع «الإخوان المسلمين» لفرض الدين على الدولة بقرار شعبي وليس بانقلاب عسكري، كما يحلو للبعض أن يروِّج. هذا الأسبوع، انضمت قطر إلى العقد الاستراتيجي الخليجي القائم على أولوية الاستقرار في المنطقة وإيلاء مصر دور قيادي في موازين القوى الإقليمية. حدث ذلك عبر إجراءات تقارب مصري – قطري قامت السعودية برعايته.

 

 

أحد أهم نتائجه انحسار نجم «الإخوان المسلمين» وخسارتهم طاقة إعلامية وسياسية بعد إغلاق قناة «الجزيرة مباشر» التي تبث من قطر. هذان تطوران لهما أبعاد على شكل الخريطة الإقليمية للسنوات المقبلة، لا سيما في ضوء تطورات ذات دلالة داخل الساحة الإيرانية والإسرائيلية والتركية. تضاف إلى ذلك إفرازات أسعار النفط المنخفضة ليس فقط على إيران، إنما أيضاً على روسيا وأدوارهما في الشرق الأوسط.

 

 

الرئيس التونسي المنتخب، الباجي قائد السبسي، أثبت للجيل الجديد الحاجة إلى الجيل المخضرم في العمل السياسي. خاض الانتخابات وهو في سن الـ88 عاماً بصفته مؤسس ورئيس حزب «نداء تونس» المعارض للإسلاميين وفاز بالدورة الثانية للانتخابات على منافسه الرئيس المنتهية ولايته محمد المنصف المرزوقي (69 عاماً) الذي دعمته القوى الإسلامية.

 

 

بعثة الاتحاد الأوروبي لمراقبة الانتخابات قالت في بيان لها «تونس تنتخب رئيسها للمرة الأولى في انتخابات شفافة وذات صدقية وتختتم طوراً انتخابياً مطابقاً للمعايير الانتخابية».

 

 

بعض وسائل الإعلام حاول أن يصوّر الباجي قائد السبسي بأنه من الحرس القديم لأنه تولى وزارات عدة كالداخلية والدفاع والخارجية في عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة الذي ترأس تونس من عام 1956 إلى 1987، كما تولى رئاسة البرلمان في عهد زين العابدين بن علي الذي تولى الحكم في 1987 إلى 2011 وأطاحته ثورة الياسمين.

 

 

تغطية تلفزيون «بي.بي.سي أميركا» (BBC America) كانت عدائية ومنحازة عبر وصف السبسي بأنه من بقايا عهد الاستبداد مع تعمد وصف المرزوقي بأنه حقوقي ومعارض سابق لنظامي بورقيبة وبن علي وكأن الـBBC تقترع نيابة عن التونسيين. لم تلفت القناة شبه الحكومية إلى أن المرزوقي يلقى دعم «الإخوان المسلمين»، أو إلى أن السبسي غادر منصبه بعد سنة كرئيس للبرلمان احتجاجاً على إخلال بن علي «بتعهد مكتوب بإحلال الديموقراطية» وفق وصف السبسي.

 

 

بغض النظر عن انحياز أجهزة إعلامية غربية وعربية، استطاع «نداء تونس» الذي يضم نقابيين وعلمانيين أن يطيح مشروع «الإخوان المسلمين» الذين يرأسهم راشد الغنوشي – وهو لاقى احتفاء مدهشاً من وسائل الإعلام ومنتديات الفكر الغربية عندما تولى – عملياً – الحكم في تونس وبدأ مشروع صوغ دستور يفرض الدين على الدولة.

 

 

انجاز رجال ونساء تونس الأول تمحور حول صوغ الدستور التونسي الجديد البديل عن مشروع دستور «الإخوان المسلمين»، والذي تمت المصادقة عليه مطلع 2014 وأعطى صلاحيات واسعة للبرلمان ولرئاسة الحكومة في الوقت الذي أعطى صلاحيات محدودة لرئيس الجمهورية لضمان عدم عودة استبداد الرئيس. الباجي قائد السبسي تعهد بالتصريح الأول له إثر فوزه بالانتخابات بأن «لا رجوع» إلى الاستبداد. والشعب التونسي، بالتأكيد، سيكون يقظاً وهو يراقب تنفيذ هذا التعهد. فهذا الشعب الذي أطلق مسيرة رفض الاستبداد، ورفض مصادرة ثورته، وأصر على دستور يفصل الدين عن الدولة، وتمسك بحقوق المرأة التي أراد الإسلاميون أن يعتبروها مجرد «ملحق» للرجل. فقالت تونس بكل جرأة وإصرار: لا.

 

 

تونس العلمانية لن تؤخذ إلى الإقصاء. و «الإخوان المسلمون» في تونس تعلموا من أخطاء تجربتهم في الحكم في مصر، فلم يقصوا أنفسهم كما فعل «الإخوان المسلمون» في مصر في أعقاب المحاكمة الشعبية لهم التي أسقطتهم من الحكم. «إخوان» تونس قرروا الالتحاق بالعملية السياسية كمعارضة، وهذا حق لهم طالما أنهم يلعبون السياسة بأصولها بدلاً من استغلال الانتخابات لابتلاع كامل العملية الديموقراطية وفرض عقيدتهم على الدولة والشعب بأكمله، كما حدث في مصر.

 

 

مصر اليوم في عهد الرئيس عبدالفتاح السيسي لها حق الاحتفاء بإسقاط مشروع «الإخوان المسلمين» ولها حق الافتخار برفضها فرض الدين عن الدولة ولها حق ضبط البلاد أمنياً بعدما كشفت عن خطط تهدد أمن البلاد. لكن، لا يليق بمصر اليوم أن تعتمد الإقصاء سياسة قاطعة ضد أي كان حتى أولئك الذين أقصوا أنفسهم في بداية الأمر. لا يليق بمصر التلاعب بمعادلة الإقصاء والإعفاء كما تبدو في محاكمتها للرئيسين السابقين حسني مبارك ومحمد مرسي. لا بد من الاستدراك كي لا يبدو الرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي راغباً بـ «الفرعنة» ليملي ما يريد ويقصي مَن يريد. ويبرئ من يريد ويعفو عمن يريد.

 

 

فمصر، خصوصاً في هذا المنعطف، هي الخاصرة العربية التي يجب ألّا يعطبها خطأٌ يُضعفها. مصر ضرورية كوزن عربي في موازين القوى الإقليمية بقرار من دول عربية فاعلة ومهمة في معادلة الموازين. الدعم السعودي والإماراتي لمصر قرار استراتيجي له أبعاد فائقة الأهمية والتقارب الذي حدث هذا الأسبوع بين مصر وقطر أتى برعاية سعودية وانطلق من قمة الرياض التي سبقت انعقاد القمة الخليجية في الدوحة.

 

 

هذا التقارب له أبعاد عدة تتعدى وقف بث «الجزيرة مباشر» ووقف حملات الإعلام المصري المسيئة لقطر وقادتها. أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني نفّذ ما وعد العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز لجهة إقفال محطة «الجزيرة مباشر»، وبدء التقارب مع مصر على أساس العقد الاستراتيجي للتوافق الخليجي. قادة الخليج رحبوا بالخطوة وأثنوا على الرعاية السعودية للتقارب المصري – القطري.

 

 

وتعمّد الرئيس المصري استبعاد حصول تطور سريع في العلاقات مع قطر، واعتبر زيارة مبعوث أمير قطر القاهرة قبل أيام «مجرد نقطة انطلاق لتوجيه رسالة ترضية إلى المصريين»، وحذر من أن «الجهات التي تخطط لتدمير مصر لم ترفع راية الاستسلام وما زالت تعمل على هدفها». وصرح مسؤول مصري بأن الإجراء القطري «مقدمة معقولة» وأن «ملفات الأزمة تشمل أيضاً أنشطة المطلوبين في الدوحة ومواضيع عدة ستكون محل بحث قريباً مع الدوحة».

 

 

ردود فعل الرئيس عبدالفتاح السيسي كان لها نكهة العجرفة غير الضرورية في هذا المنعطف باستخدامه كلمة «مجرد» و «ترضية». كان من الأفضل لو شجّع وقدّر بدلاً من ذلك. فترتيب البيت الخليجي مهم لأهم الداعمين له، أولاً. ثم إن الرسالة الضمنية من قطر إلى «الإخوان المسلمين» ليست «مجرد» نقطة انطلاق «لترضية» المصريين. إنها سياسة ذات أبعاد وإفرازات بالغة الأهمية.

 

 

بالغة الأهمية أولاً في إطار حجم طموحات وقدرات «الإخوان المسلمين» في مصر وفي المنطقة العربية، علماً أن قطر مُتّهَمة بدعم «الإخوان المسلمين» بشتى الوسائل الإعلامية والسياسية والمالية. وثانياً، إنها مهمة في إطار التنافس على المواقع في موازين القوى الإقليمية لما لها من تأثير في طموحات الراعي الأول لنهوض «الإخوان المسلمين» إلى السلطة، الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وبما أن مصر معنية بالأمرين ربما تُعيد الديبلوماسية المصرية تقويم معنى المواقف القطرية والرعاية السعودية للتقارب الذي حدث.

 

 

الديبلوماسية السعودية ناشطة على الصعيدين الإقليمي والدولي، السياسي والاقتصادي، في هذه الفترة، وبصورة متقنة وبارعة وبالغة الدقة. فإلى جانب مسألتي البيت الخليجي ومصر في الأولويات الخليجية والعربية، تعالج الرياض المسألة السورية عبر مراقبة وطأة أسعار النفط على كل من إيران وروسيا.

 

 

البعض يقول أنه ليس في الأمر مهارة سياسية مدروسة وإنما الأمر فقط عبارة عن «العرض والطلب» في أسواق النفط، ما أدى إلى انخفاض الأسعار، وإلى ضربة قاسية للعملة الروسية والاقتصاد الروسي، كما إلى الاقتصاد الإيراني والفنزويلي معه. البعض الآخر يعتبر القرار السعودي الإبقاء على أسعار النفط المنخفضة مهارة بالغة ليس فقط في إطار التفاهم مع الولايات المتحدة، إنما أيضاً في إطار إضعاف القدرات الروسية والإيرانية خارج حدودهما – بالذات في سورية التي توليها الرياض أهمية مميزة.

 

 

مهما كان، النتيجة موجعة لموسكو وطهران. موجعة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يعاني من وطأة العقوبات المفروضة على روسيا نتيجة مغامراته في أوكرانيا. وبالتالي إن العقوبات وأسعار النفط زجته في زاوية واستحقاقات ليس فقط في إطار مغامراته خارج بلاده وسياساته في سورية، إنما أيضاً على الصعيد الداخلي حيث قد يواجه معارضة شعبية روسية. ستبقى روسيا وستستعيد يوماً ما قدراتها الضخمة لأنها دولة ثرية بموارد طبيعية. أما الرد على ما يفعله القادة بالبلاد، فهو أمر تمليه الأوضاع الاقتصادية لأن الوطنية والقومية بمفردها ليست كافية إيرانياً، وإذا كان مشروع الموزانة الذي قدمه الرئيس حسن روحاني للبرلمان مؤشراً، فإنه يبدو مضطراً إلى إغداق المؤسسات الأمنية مثل «الحرس الثوري» وقوات «الباسيج» الأمنية بالمال بنسبة 64 في المئة. هذا في الوقت الذي تعتمد الموازنة على زيادة إيرادات الدولة من الضرائب للتعويض جزئياً عن نقص عائدات النفط. كيف سيؤثر ذلك في الأوضاع المعيشية وردود الفعل الشعبية؟ أمر سيتطلب المراقبة في السنة المقبلة، لا سيما إذا تم إقرار تمويل المؤسسات الأمنية لتمضي في مغامراتها الخارجية.

 

 

فمسيرة التغيير مستمرة في الشرق الأوسط بإيجابياتها وسلبياتها.