لم يكن المسار المؤدي إلى عين التينة مستقيماً، بل كان متعرجاً، أقله من جانب «المستقبل» الذي واجه صعوبات واضحة في قرار التجاوب مع أصل الحوار، حتى أن المشاغبة صارت علنية وخرج البعض من «المستقبليين» وأبرزهم النائب أحمد فتفت للقول انه غير مقتنع بفكرة الحوار استنادا إلى التجارب الثنائية والموسعة السابقة التي بيّنت، بالنسبة إليه، أن «حزب الله» لا يلتزم بالضرورة بما يتم الاتفاق عليه.
وما عبّر عنه فتفت علناً، وهذه ميزته، ردده كثيرون داخل «البيت المستقبلي» ممن راحوا يقدمون كل الأسباب الموجبة لعدم الخوض بتجربة الحوار مجددا، سائلين عما سيجنيه فريقهم منها، وعن وقع الصورة بحد ذاتها، وراح بعضهم يطرح عناوين لجدول الأعمال من نوع محاولة إحراج «حزب الله» بقضية «سرايا المقاومة» في محاولة منهم لانتزاع أي شيء على الطاولة حتى لا يذهب الحوار هباء كما في كل مرة.
وليس خافياً على أحد أن الحريري، لاعتبارات سياسية تخصه شخصياً، وأخرى سعودية، كان حاسماً وغير متردد في قرار المضي بالحوار، الأمر الذي نقل النقاش الى مقلب آخر، حول طبيعة الوفد الذي سيحاور وهل يقتصر على نادر الحريري المعاون السياسي لزعيم «المستقبل» أم يضم آخرين، وإذا حصل التوسيع، فهل يتم الاكتفاء بأسماء سياسية «غير صدامية» أم يستعان بأسماء من «العيار الثقيل» من أهل «التيار الأزرق»؟
عندما حسم أمر الدعوة الى الحوار بين «العيدين» من قبل الرئيس نبيه بري، تأخر جواب نادر الحريري، الأمر الذي استوجب من بري «رفع الصوت» سائلا عن أسباب التأخير وعدم الرد، ليتبين بعد ذلك، أن الأسباب داخلية بحتة، وهو الأمر الذي بينته لاحقاً أجوبة «المستقبل» بقبول أصل الدعوة مجددا والطلب أن يكون اللقاء غير مصوّر وبعيدا عن الضجيج الإعلامي وأن يكون الحوار موسعاً.
لاحقا، قدم نادر الحريري الى المعاون السياسي للرئيس نبيه بري الوزير علي حسن خليل لائحة بأسماء وفد «المستقبل» حتى يبادر «حزب الله» من جانبه الى تسمية وفده الى الحوار، بعدما كان الأمر متوقفاً على حسين الخليل قبل سفر نادر الحريري الى السعودية.
واذا كان نادر الحريري قد اختار أن يجلس والى يساره نهاد المشنوق وسمير الجسر، مقابل وفد «حزب الله» برئاسة الحاج حسين الخليل ومعه حسين الحاج حسن وحسن فضل الله، في الصالون السياسي للرئيس نبيه بري، بحضور علي حسن خليل، فإن الجلوس الى طاولة العشاء أدى الى اختلاط الوفود بحيث توزعوا حول الطاولة وفق تراتبية عشوائية على جانبي الطاولة، وهو الأمر الذي ساعد كثيراً في كسر حدة الأجواء.
وربّ سائل اليوم: إذا كانت موجبات الجلسة الأولى قد اقتضت أن يكون الحوار موسعاً، فهل يمكن أن تتطور الجلسات اللاحقة، بحيث تعود ثنائية (حسين الخليل ونادر الحريري) بحضور علي حسن خليل، ليتم الدخول في صلب المسائل الخلافيّة أم يبقى الحوار موسعا؟
الضعف الوحيد – أو ربّما القوة – للجلسة الأولى أنّه لم يكن لها «نيجاتيف» يظهر فيها الجميع يبتسمون ويأكلون. قد يكون فؤاد السنيورة تنفّس الصعداء عندما علم أن المصوّرين سيُبعدون أميالاً عن حدود عين التنية، حيث يجلس «زملاؤه». كاد السنيورة «يسنّ أسنانه» بأن يكون له «عيون» داخل جلسات الحوار، فمنّى النفس بأن يحضر جمال الجراح، لتنخفض في ما بعد أسهم النائب البقاعي وترتفع تلك العائدة إلى أحمد فتفت، قبل أن يكون سعد الحريري حاسماً بإبعاد الوجوه الصدامية نهائياً عن وفده الحواري.
لم يكلّف سعد الحريري نفسه عناء التفكير في الشخصيّة الثانية التي سترافق مدير مكتبه إلى عين التينة. ولأنّ «دولة الرئيس» يريد حواراً بمشاركة «التكنوقراط»، ولأن الأمن هو «أوّل الهموم» وسيكون على رأس جدول الأعمال بين الطرفين، وقع الاختيار سريعاً على نهاد المشنوق الذي أضفى حضوره في عين التينة لمسة دافئة بحكم علاقته الوثيقة بالرئيس نبيه بري وقنواته المفتوحة مع «حزب الله» بصورة مستمرة.
وبالإضافة إلى أنّه «وزير الأمن»، فإن «ملك الصنائع» كان أوّل «الزرق» الذين آمنوا بالحوار مع «الحزب». كان ذلك واضــحاً في خطابــه السياسي ورؤيته بالعين المجرّدة إلى جانب المعاون السياسي للــسيّد حسن نصرالله.. وبالتالي، من الصعب أن يحصل الحوار من دون «أبو صالح».
وبعدما اكتمل النصاب عند الحريري بمدير مكتبه ووزير الداخلية والبلديات، اصطفى «الشيخ سعد» سمير الجسر من بين كلّ نواب الشمال، بالرغم من أنّ طرابلس لن تكون حاضرة بقوّة على طاولة عين التينة. فيما كان أجدى بالنسبة الى البعض من «المستقبليين» أن يحضر البقاع من خلال شخصيّة حوارية معينة، خصوصا أن «الحزب» و «المستقبل» على تماس مباشر في المناطق البقاعيّة، حيث ترتفع الخشية من أي «خرق داعشي» للمناطق الحدودية البقاعية.
لماذا اختير الجسر تحديداً؟ البعض يشير إلى أنّه قد يكون بمقدور رئيس «لجنة الدفاع النيابيّة» أن يساعد وزير الداخلية والبلديات. فيما يستبعد البعض الآخر هذا الأمر، مشيرين إلى أن وجود نقيب المحامين السابق والمتخصّص في الشؤون القانونيّة سيكون ضرورياً إذا تمّ بحث القوانين الانتخابيّة تقنياً على طاولة بري.
في المقابل، يذهب الخبثاء أبعد من ذلك، معتقدين أن كرسي الجسر في مقرّ الرئاسة الثانية رسالة موجّهة إلى السنيورة نفسه، إذ اختير نائب رئيس «الكتلة» (الجسر) بدلاً من الرئيس. ويرون أن إقصاء الفريق المقرّب من رئيس «الكتلة» عن الطاولة له تفسيران: أن يكون «أبو وائل» رافضاً لفكرة الحوار من الأساس.
وكان لافتا للانتباه أن الحوار غُيب تماماً عن البيان الصادر عن كتلة «المستقبل» قبيل جلوس الطرفين الى طاولة واحدة، بل تقصّد أعضاؤها ــ وخصوصاً رئيسها ــ في بيانهم، أمس الأوّل، توجيه السهام إلى رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني، ومن خلفه «حزب الله».
أما التفسير الثاني، فيعتبر هؤلاء أنّ الحريري انتهج خلال الفترة الماضية سياسة «كف يد» السنيورة عن الكثير من الملفّات، التي كان أوّلها ملفّ دار الفتوى والعلاقة مع بعض الأطراف الداخليّة وصولاً إلى التواصل مع «حزب الله».