بينما كان علي حسن خليل يقرع باب القصر الجنبلاطي في كليمنصو للقاء البيك ووضعه في أجواء جلسة الساعات الأربع الحوارية، كان رئيس "جبهة النضال الوطني" يشيد عبر الأثير الإعلامي، وبكلمات مقتضبة، باللقاء المسائي، الذي غاب عنه بالجسد، وأبقى على ملائكته حاضرة.

 

لم يقدّم وليد جنبلاط أصلاً طلباً رسمياً للانضمام إلى الطاولة المستديرة التي نحتها بإزميله طوال الأشهر الماضية. سبق له أن قال صراحة إنّه في حال دُعي للمشاركة في هذا الحوار، فهو سيلبي النداء، وإلا فإنّه سيبقى بعيداً عنه.. لكن فقط في الجغرافيا.

 

يعرف الرجل مكانته في "الرؤوس" الثلاثة الملتقية في عين التينة، ويدرك أيضاً أنّ مياه الالتقاء التي تسربت عبر قنوات الحوار، لن تسير من تحت قدميه، حتى لو أغلقت الأبواب بإحكام حول "قاعة المصارحات" وأبعدت الكاميرات والميكروفونات بقرار عن سابق إصرار وتصميم.

 

ولهذا كان الرجل أول "المهللين" لـ"الإنجاز" الذي وضع لبنته الأولى في وقت كان فيه الفريقان المتخاصمان يهدمان كل حجارة بينهما. إشارة جلية من جنبلاط إلى أنّه غير منزعج من الإبقاء عليه خارج أسوار القلعة الحوارية، وأنّه مؤيد لهذا المسار، حتى لو لم يكن واحداً من الجالسين إلى مائدة "صديقه في السرّاء والضراء"، نبيه بري.

 

هكذا حرص رئيس المجلس على إيفاد مساعده السياسي إلى كليمنصو لإشراك أبي تيمور "في الطبخة التي تطهى في عين التنية على نار هادئة، ليكون شريكاً في منحها النكهة برشّ بهاراتها.. ولو عن بعد".

 

هو يعرف جيداً أنّ الوضع الداخلي متخم بالتعقيدات والأزمات المتشابكة، التي تستدعي الترفع عن بعض الصغائر الشكلية، ما دام حاضرا في العمق، ولا بدّ من الارتقاء بالخطاب، لا سيما أنّه أول الداعين إلى القفز فوق بعض التفاصيل غير ذات الأهمية، ولا يجوز بالتالي أن يقع بالحفرة التي لطالما حذّر منها مراراً وتكراراً.

 

صاغ وليد جنبلاط خطابه خلال الأشهر الأخيرة على نغمة واحدة: لا بدّ من الحوار. قالها بالعلن وفي لقاءاته المغلقة مع القوى السياسية، حتى بدا في بعض مراحل "الجنون السياسي" كأنّه يحفر الجبل بيديه حين كانت تلال الخلافات تتراكم بين "تيار المستقبل" و"حزب الله"، وكان ضرباً من ضروب الخيال الحديث عن مساحة التقاء بينهما ولو محدودة جداً.

 

كان الرجل يدعو "التيار الأزرق" إلى الاستعانة برئيس المجلس. كررها مراراً أمام "الحريريين" ودعاهم باستمرار إلى فتح كوة ولو ضيقة في جدار العلاقة مع بري، لأنها حاجة ضرورية ولا يمكن القفز فوقها، "حتى لو كان ممنوعاً على الطير أن يطير فوق الضاحية الجنوبية". وبالفعل استعادت العلاقة بين بيت الوسط وعين التينة القليل من عافيتها، بل صارت ملجأ للكثير من القضايا العالقة بين الفريقين.

 

حتى أن أكثر الحريريين "صقورية"، ويفترض أن الرئيس فؤاد السنيورة هو الذي يحمل هذ اللقب، أعاد تنشيط خطوط الاتصال مع رئيس المجلس وترك مقره في "السادات تاور" ليطلب موعداً في عين التينة للقاء سيدها عند المفاصل الأساسية.

 

طبعاً، إنّ تقاسم الخبز والملح الى طاولة تمام سلام ساهم بدوره في تنفيس بعض الاحتقان، وبحياكة آليات تنسيق ومتابعة، بقيت محصورة بشقين، أمني وحكومي. أما السياسة فلازمت مربع المحرمات بين الفريقين.

 

معيار واحد دفع الزعيم الدرزي إلى حمل مبخرة الحوار للتبشير بأهميته، وهو الأزمة السورية. صار الرجل مقتنعاً، بعد تطورات السنوات الثلاث الميدانية والعسكرية والسياسية، بأنّ هذا الباب لن يقفل بسهولة وبأنّ نيران الحرب السورية قد تمتد في أي لحظة إلى الدار اللبنانية، لا بل هي امتدت فعلاً بوصول بعض «الدواعش» إلى الداخل اللبناني.

 

قال الرجل أمام كل من التقاه من الفريقين، أي "المستقبل" و"حزب الله" وحتى القوى اللبنانية الأخرى التي جال عليها، إنّ الرهانات السورية انتحارية ما دام أفق النزاع غير مرئي وقد يتطلب سنوات من العراك العسكري القاتل، ولهذا لا يفيد ربط مصير اللبنانيين بالأزمة السورية ما دام مصير الأخيرة معقدا ومجهولا. ودعا الجميع إلى تحييد الملفات اللبنانية عن المستنقع السوري، والعمل على رفع منسوب التوافقات وتخفيق منسوب الاختلافات، أو أقله تجميدها راهناً.

 

كان لا بدّ برأيه من تنظيم الخلاف من خلال الجلوس وجهاً لوجه لبدء نقاش جدي ومنفتح. وهو اليوم ينتظر أكل العنب، وليس قتل الناطور..