جاء رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني الى بيروت ليقول: «على المسيحيّين القيام بالمجهود الأساس في الإنتخابات الرئاسيّة». سبقته الرياض عندما طالبت المسيحيّين بحسم أمرهم. لكن ليس المهم مَن سبق، بل المهمّ أنّ هناك لغة سعوديّة - إيرانيّة مشتركة. فهل يبنى على الشيء مقتضاه، ويكون الحوار المسيحي - المسيحي المرتجى، والحوار السنّي - الشيعي، بداية تحرير قصر بعبدا من الفراغ؟

المُلمّون بقواعد اللغة يؤكّدون أنّ العبارة المشتركة بدأت بحرف الجرّ، واسم المجرور بمواقف الآخرين المتنافرة، ومصالحهم المتضاربة. المُلمّون بالأدب السياسي يؤكدون أنّ أداة الجر هنا فعل وليست حرفاً، والفعل تتولّاه السعودية، ولا بأس أن تكون المقطورة اللبنانيّة مربوطة بالقاطرة السعودية - الإيرانيّة نحو الاستحقاق.

قبل أسابيع، أصلح الملك عبدالله بن عبد العزيز شؤون البيت الخليجي. حَماه من التداعيات، ودعّم أساساته من خلال المصالحة التي تمّت بهمّته ورعايته ما بين السعودية والإمارات والبحرين من جهة، وقطر من جهة أخرى.

في الأمس القريب وَسّع الدائرة لتشمل قطر ومصر بهدف إعادة لمّ الشتات العربي، فيما تبقى المسألة السوريّة تحت المجهر، محكومة بالسؤال - اللغز: هل من ثغرة ستفتح في هذا الجدار، أم أنّ التباين في وجهات النظر حيال دور الرئيس بشّار الأسد، ومستقبله، لا يزال محتدماً ما بين الرياض وطهران؟

المواقف المعلنة من الطرفين لا تحمل تغييراً جوهريّاً، لكن الجديد الذي يمكن البناء عليه يتمثّل في المحاولات الناشطة لفصل الملف الرئاسي عن تداعيات المشهد السوري، من خلال التحدث بلغة واحدة، وتشجيع الأطراف اللبنانيين على العودة الى الحوار للتفاهم على إعادة الرأس الى الجسم.

قد يكون الزمن زمن مهادنة، ولكنّه قطعاً ليس زمن إلقاء السلاح، وما يسري على محاولات الحوار المحليّ، يسري أيضاً على العربي والإقليمي. لقد باتت المهادنة ضرورية للوصول الى المكاشفة، ذلك أنّ التحالف الدولي في مأزق كبير بعدما انكشفت الغايات والمهمات.

التحليق ليس لضرب «داعش» فقط، بل الممانعة أيضاً، أو ما تبقّى منها، لفرض إقامة قواعد عسكريّة ثابتة ودائمة على الأرض، والتحكّم بالطاقات والمقدّرات. تعوّل دول التحالف على هشاشة الأوضاع، دول مغلوب على أمرها، شعوب مسحوقة تأخذها الانتفاضات الى حيث لا تريد، وجاء هو ليأخذها حيث يريد.

وسط هذه المعمعة، يطأ لاريجاني عتبة المهادنة في لبنان ما بين «حزب الله» وتيار «المستقبل»، لكنّ المهمّة التي جاء من أجلها تحتاج الى بطاقة تعريف: هل هي أكاديميّة (الجامعة اللبنانية)، أم لتفقّد أحوال الرعيّة؟

سبقه الأميركي ماثيو سبنس، والروسي ميخائيل بوغدانوف، والفرنسي جان فرنسوا جيرو، والبريطاني توبايس إلوود، ومسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغريني، وآخرون.

إكتملت «الخلطة»، أو تكاد، لكن لم يعرف لبنان بعد مَذاق هذه «الطبخة» التي تعدّ في السر والعلن. كوكتيل من الوجوه والإتجاهات. الجميع مهتمّ، والجميع يناشد المسيحيين التفاهم على رئيس، فيما تغيب الوساطات ومعها الحلول «السحريّة». لا يمكن إطلاقاً التشكيك في قدرة هذه الدول ومقدّراتها، إذا ما زفّت ساعة الحل. خمسون عاماً من القطيعة والمقاطعة ما بين الولايات المتحدة وكوبا، أنهَتها «جيوش الفاتيكان» التي أثبتت أنها أقوى من جيوش ستالين.

عندما تشتدّ العاصفة، ويدلهمّ الأفق، تصبح الحاجة ملحّة الى الإنقشاع. ووسط العاصفة الهوجاء التي تضرب المنطقة يصبح الحديث عن المهادنة، وتلاويح الإنفراجات، أمراً ممتعاً. لم يعد العنوان في لبنان مقتصراً على «داعش»، ولا تتحكّم في معطياته «جبهة النصرة». أصبح للحوار فيه مكان، لا بل بات العنوان يتمحور على ما قد يُفضي اليه لقاء الدكتور سمير جعجع والعماد ميشال عون، وطاولة الحوار ما بين «المستقبل» و«حزب الله».

في الكواليس الديبلوماسية «عجقة غير طبيعيّة»، وحركة لقاءات واتصالات لمعرفة ما يحدث راهناً في الكواليس اللبنانية. هناك من يقول: «خذوا تنبّؤات السفير البابوي جدياً»، من يستطيع إذابة جبل الجليد ما بين أميركا وكوبا، يستطيع دفع مركب الاستحقاق الرئاسي من مرمى الأمواج العاتية الى شاطئ الأمان.

تبادل العبارة الواحدة ما بين إيران والسعوديّة ليس بالظاهرة الشكليّة، ولاريجاني في بيروت يوسّع دائرة الموفدين. صحيح أنّ العاصفة في المنطقة لا تزال عنيفة، ولكن هذا لا يمنع من حصول بعض الانفراجات في لبنان، على غرار ما حصل داخل البيت الخليجي، وما بين مصر وقطر، وأوّل الغيث قطرة ربما تحملها سحب الحوار.