أوّل ما يتبادر إلى ذهن أيّ مواطن استقلالي وسيادي، عندما يستمع إلى تصاريح السفير السوري في لبنان علي عبد الكريم علي، بأنّ ١٤ آذار أخطأت في خطوة التبادل الديبلوماسي بين البلدين، وقد جاء لقاء الوزير وليد المعلم مع أركان قوى ٨ آذار في السفارة ليزيد من قناعة هذه الشريحة. فهل أخطأت ١٤ آذار فعلاً؟ وما الرسائل التي أراد المعلم توجيهها من بيروت ومن مبنى السفارة حصراً؟

شكّل مطلب التبادل الديبلوماسي بين لبنان وسوريا مطلباً لبنانياً مُزمناً ترافقَ مع نشوء الكيانين في ظل هواجس لبنانية، وتحديداً مسيحية، من أطماع سورية معطوفة على عدم اعتراف باستقلال لبنان لأسباب عقائدية وإيديولوجية.

وكان الاعتقاد أنّ وجود سفارة سورية في لبنان يؤدي إلى اعتراف ولَو شكليّ بنهائية لبنان وحدوده، والأهم أنه يؤسس لثقافة شعبية بأنّ لبنان مستقلّ عن سوريا، لأنّ التدخل الخارجي غير ممكن ما لم تتوافر له أرضية داخلية، وهذه الأرضية كانت متوافرة نتيجة عاملين: نظرة شريحة واسعة من المسلمين إلى سوريا بأنها تشكّل جزءاً لا يتجزأ من لبنان، وإصرار الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد على تغذية هذه الثقافة من خلال مقولة «شعب واحد في دولتين»، وذلك في رسالة واضحة بأنّ فصل بيروت عن دمشق هو مجرد فصل جغرافي حتّمته ظروف قاهرة دولية، وأنّ وحدة الشعبين كفيلة بتجاوز ترسيمات سايكس-بيكو وصولاً إلى إعلان الوحدة في التوقيت المناسب.

فالسفارة من هذا المنطلق تُرسي توجهاً جديداً، كما انه ليس تفصيلاً رفض الأنظمة المتعاقبة في سوريا على التبادل الديبلوماسي على رغم المطالبات اللبنانية. وفي هذا السياق شكّل اتفاق الطائف ثغرة مهمة كونه لم يأت على ذكر التبادل الديبلوماسي، وهذا بطبيعة الحال نتيجة الإصرار السوري على استبعاد هذا المطلب الذي كان يشكّل انتصاراً لشريحة واسعة من اللبنانيين.

وتشكّل السفارة أيضاً مدخلاً لترتيب العلاقات بين البلدين، إذ إنّ الفوضى القائمة، والتي تفشّت مع الحرب اللبنانية، لن تستمر، كما أن التحولات التي شهدتها سوريا في السنوات الأخيرة تساهم في تدعيم التوجهَين الاستقلاليّين في سوريا ولبنان، فضلاً عن أن هذا المسار يقود مع الوقت إلى ترسيم الحدود وتعويد من كان يرفض أن يتعوّد بأنّ سوريا في سوريا ولبنان في لبنان.

وفي موازاة ذلك، البدائل تتراوح بين قطيعة وإقفال حدود، وبين تداخل جغرافي وسياسي، فيما يفترض أن تكون العلاقة مع سوريا على غرار العلاقة مع كل دول العالم، حيث لا وجود لنظريات الشقيق ووحدة الشعبين، إنما فقط احترام متبادل على أساس دولتين سياديّتين.

وإذا كان النظام السوري حاول استخدام السفارة كمنصة لمواصلة تدخلاته في الشؤون اللبنانية، فإنّ هذه التدخلات بعد خروج جيشه من لبنان، وانكفاء هذا الجيش إلى ما دون نصف الجغرافية السورية، فقدت تأثيرها وأصبحت ثانوية وشكلية مقابل التعقيد الفعلي الذي انتقل إلى الواجهة في العام ٢٠٠٥، والمتمثّل بـ«حزب الله».

فالأزمة اللبنانية اليوم لم تعد في العمق والجوهر ناتجة عن التدخلات السورية في الشؤون اللبنانية، خصوصاً أنّ عدوى التدخل انتقلت إلى سوريا نفسها، إنما هذه الأزمة اسمها «حزب الله» الذي يرفض تسليم سلاحه ويريد إبقاء لبنان ساحة إقليمية لمواجهات بالجملة، مع إسرائيل حيناً، ومع التكفيريين أحياناً، وفي خدمة مشروع الممانعة في كل الأحيان.

ومحور الممانعة نفسه يدرك، بمعزل عن الدعاية السياسية والإعلامية، بأنّ سوريا الدور الإقليمي انتهت إلى غير رجعة، وأنه في أفضل الأحوال يمكن لهذا النظام أن يستمر ضمن معادلة شراكة تَحدّ من صلاحياته ودوره، حيث يتحوّل أقصى طموحه الحفاظ على وجوده.

ومن هنا اللوم في اللقاء الذي جمع وليد المعلم إلى أركان قوى ٨ آذار يقع على «حزب الله»، لا النظام السوري الذي يريد أن يوجّه رسائل فارغة من أي مضمون في كل الاتجاهات عن دور يتجاوز سوريا، واستمرار تأثيره في لبنان، وتخطّيه لمشاكله الداخلية بعودة تفرّغه لأحوال مناطق نفوذه، فيما كان الأولى بالحزب ألا يُقدم على خطوة استفزازية تزامناً مع الكلام عن الحوار الذي من أبرز بنوده فك الاشتباك مع الأزمة السورية، وكأنّ الحزب تقصّد في ظل الأجواء الحوارية أن يؤكد على مواصلة تورّطه العسكري والسياسي في هذه الأزمة.

وإذا كان النظام السوري، الذي فقد كلّ وزنه وتأثيره، بحاجة لهذه الصورة تزامناً مع الشهادات السياسية في المحكمة الدولية التي أعادت تظهير دوره في اغتيال الشهيد رفيق الحريري، وقبل ساعات من سفره إلى روسيا التي تقوم بمبادرة تهيّىء لحلّ الأزمة السورية، فأين مصلحة «حزب الله» في الظهور بمظهر التابع للنظام، فيما هو يدافع عنه عسكرياً في سوريا؟

وأين مصلحة الحزب بتحدي الشارع السني اللبناني والسوري والعربي بمواصلة التصاقه العلني السياسي والعسكري بالنظام السوري؟ وأين مصلحة الحزب في إضعاف «المستقبل» داخل بيئته التي ستتقبّل على مضَض حواراً مع حزب يمعن في قهرها؟ وأين مصلحة الحزب في صورة لا تقدم ولا تؤخّر عملياً، بل تسيء إلى التسوية التي نشأت مع الحكومة، وتشجّع على استمرار الرهان على الحرب السورية؟

ويبقى أن الرسالة الأبرز التي وجّهها «حزب الله»، بأنه لا يقيم أيّ وزن للشراكة في الداخل والمصلحة الوطنية والبعد الميثاقي وحساسية الأطراف المكوّنة للصيغة، بل أولويته تكمن في مشروعه الإقليمي، كما أنّ علاقته مع القوى الأخرى يحكمها فقط ميزان القوى، حيث يطيح بها إذا «طبش» هذا الميزان لمصلحته، ويهادنها مُستغلاً حرصها على الاستقرار إذا ما وجد مصلحته في ذلك. وفي الخلاصة، هذه العلاقة تؤسس للانفجار...لا الاستقرار.