ربما يقودنا الحب إلى الغلو الجميل، فنسطّر مبالغة في التقدير و التقديس، لأزمنة وأمكنة، وأشخاص، ونترفع تجاه ما نهوى لنجتلي أحبة نصطفيهم كأخيار في طريق الأشرار.. تقودني نزعة الحياة أمام رجل لا يوصف ولا يدرك ولا يحاط، تظن نفسك أنك عرفته بعد مسيرة ومسار، فتجد المسافة بينك وبينه مقطوعة على نية التعرّف لاكتساب ما تزداد به علماً وثقة وأدباً، وتعيد حساباتك عند كل مفرق ومفترق وتقاطع، فترشدك اشارة المرور إليه.

هاني فحص أكثر من سيد ورجل دين ودنيا، قامة في إقامة مفتوحة على الكون والتاريخ، لا حدود تحده، ولا وطن يستوعبه، رحّالة من نوع آخر، لا يقيس رحلاته كما هو حال الرحّالين الذين بحثوا عن أنفسهم وعن الله في طبيعة خلقه، إنه كوكب في فضاء خاص, يضيء ويشتعل بزيت الأرض التي ضمّها إليه عروساً بكراً من طين الثورة وجبّلة الطهارة التي عُجن بها الأنبياء.

عرفته وكلما شاهدته تعرفت عليه، سكنت فسيح عينيه وقلبه، وجنّة لغته التي أنتجته وأعاد إنتاجها طيلة معاناته مع الكتابة. فتارة ترى اللغة أمّه وتارة إحدى بناته البكر، ولا يدّعي أبوّتها، حتى لا يتسلط عليها باسم الربوبية. فتحت كتبه من "الولد العاملي" إلى "أسئلة قبل إيران كانت خائفة"، ودخلت معه "تفاصيل القلب" و"ماض لا يمضي"، وأوراق قديمة من تاريخ ذاكرة حيّة لا تموت، وما دونها من تجارب مثقلة بفقر المجاهدين والشهداء، وأعدت قراءة سطوره وما بينها من أبعاد ومضامين تتجاوز النصّ المعالج لأشكلة في النصّ والتجربة والممارسة، ولاحظت قدرته على التماهي والتجدد والانعتاق والانغلاق والتماثل مع الأنا والآخر، والشعور بالإحباط واليأس والصعود منهما إلى درجات في الرقيّ والتقدّم.

يدركك وأنت تلاحقه، يصعّب عليك سهولة البحث عنه بين متناقضات لا حصر لها، وكلما أوغلت دفعك إلى شاطئ آمن إلى استراحة تذيل عنك تعب السفر، ويغريك بمتعة الانتظار تحت فيء كلمة هاربة من فلسطين أو إيران، أو طالعة من مصر عربي مرهق بفضل ثورة أو نكسة، ويشحن عزيمتك مجدداً للإقلاع إلى إحدى المشاهد الثريّة من "التبغ" في مدينة النبطية، وكفاح العمال في ورش البلشفية، ودعوات العرب إلى التحرر من عبء الوحدة الإسلامية التي أراحت العدو الأجنبي وأرهقت رعاياها، ومن ثم الاستقالة على طريقة المتصوفة ليجلد ذاته المخفقة عن إحقاق الحق المتوزع على شبكات ثورية متعددة لم تفلح في تطبيق شعار واحد من الشعارات التي حملتها منذ قيام الدولة الوطنية.

هرب هاني فحص من التاريخ من التراث الغث, وظنّ  يوماً بأن مدنيّة الجاهلية العربية بقادرة على كسب معركة واحدة من حروب لا تنتهي، فكانت النكبة والنكسة وسقوط فلسطين وضياعها، وتحوّل العمل الفدائي من الثورة إلى المقاولة. وخسارة اليسار العربي معركته ضدّ الله، وتشظيه بعيد تجارب فاسدة للبعث في السياسة والإدارة والاقتصاد. وبعد أن هاله مشهد المؤمّلين عليهم، جمع رصيده وعاد إلى تاريخه لعلّ فيه ما يعوّضه عن ما فاته منه, ومن نصوص أخرى، فتوزّع ما بين الدين والمذهب ومسك عصا الثورة الإسلامية واستمسك بعروة المقاومة ليخوض معركة التحرير من المحتل، وأدرك باكراً عجزه عن الوصول إلى ما تراه عيناه, وثبت لديه أن الخلاص ليس صيغة أو ادارة أو تدبيراً، مسألة أصغر من ثورة ومقاومة وأكبر من فعل مدمّى، إنه بعث جديد، ولادة لعقل نظيف تماماً من هواجس العقيدة والأيديولوجية، لإسقاطات داخلية أو خارجية عقل متحرر من القيود والضغوط والوصفات الجاهزة والمعدّة  سلفاً من قبل فقهاء صيانة العقل.

من دولة بلا دين يفسدها، إلى سلطة تستغل الدين. بدأ السيد ترتيب أوراقه، نزعته الجديدة نحو الإرادة المستقلة، لبلوغ مرتبة المناضل نحو بناء الدولة وتحت سقف المجتمع، وصُدم كما المسيح عليه السلام بأصنام  الهيكل، عندما رفض واقع الأصنام الجديدة التي ساقتها قريش لتعيد الأمّة إلى سيرتها الأولى، إلى عبادة الشرك، إلى منطق القبائل وغزو الفيء وتجارة الإماء والعبيد.

فتح لنا فضاءاً مكّننا فيه من قراءة الملتبس والمشتبه، وقطع حبل الشك الذي يراود المجاهدين القابضين على جمر جهادهم، وأفرغ ما احتوته تجربته من حمولات لملء سلال الحقل بعد حرث وزرع وسقاية، ودع إلى استكمال العمل على الإصلاح والتغيير ، لنكمل دورة الفاعلين في الحياة والمؤثرين فيها، بحثاً عن الإنسان الذي ذبحته سكين أوصياء الرسل، وطمعاً في الاقتراب من الطبيعة التي حملتنا في أحشائها ووضعتنا على بساطها الأخضر، لنحرس حياتنا بحمايتها من يباس الفقر وتنامي الجهل، وقسوة السيف وسطوة الاستبداد.

أعترف في عجالتي هذه بأنني لا أدرك بحورك، ولكن أدرك جوهرك ومعدنك وذهبك الخالص. لذا أشترع معك في حضورك الشاغل لدين لا معنى له دونك. دون جدليتك وعبثتيك واشكالياتك المتعددة في النصوص الدينية والوضعية. السيد هاني فحص يبقى مساحة مفتوحة على حراك مستمر، بحثاً عن أشياء مفقودة وما أكثرها في وطننا العربي، بعض خمرك مسكر وأكثره منافع لأنه منقوع بسُلاف الصوفيين، ما عرفك أحد إلا وماثلك وتأثر بك إلى حدّ الاقتباس أو التقمص.