قالت الدكتورة ابتسام الكتبي، رئيسة مركز الإمارات للسياسات، في كلمتها الافتتاحية «لملتقى أبوظبي الاستراتيجي الأول» (19 و20 أكتوبر/ تشرين الأول 2014)، إنَّ السنوات الثلاث الأخيرة شهدت «تداخُلَ الثورات مع التحولات الدولية والمشاريع الجيوسياسية، وانفجار الجغرافيا السياسية الناجمة عن تفكك الإمبراطورية العثمانية والهندسة الاستعمارية الأوروبية (سايكس - بيكو)، ودخول بعض القوى الإقليمية مثل إيران وتركيا لاعبًا داخليًا فاعلًا في المنطقة ومؤثرًا في أزماتها وتوازناتها، ودخول المنطقة في حرب طائفية طويلة. وتجذر فاعلية التطرف الديني في مرحلة الانتقال السياسي الذي عرفته الدول التي شهدت ثورات..».
هناك إذن 4 ظواهر؛ اثنتان خاصتان بالانفجارات الدينية والطائفية، واثنتان خاصتان بالتفكك الجيوسياسي، والتدخل الإقليمي على وقع ذلك التفكك الجيوسياسي. وهكذا فإنَّ الواقع الراهن لا يمكن فهمه ومحاولة التصرف إزاءه إلا بفهم التداخل بين هذه العناصر الأربع. والواقع أنَّ هذه الظواهر المترابطة والتي يتشارك كلٌّ منها في صنع الآخر، يجب لوضعها في سياقاتها الحالية التنبيه إلى أمرين آخرين هما اللذان أطلقا هذه الديناميات: هجمة «القاعدة» على الولايات المتحدة عام 2001 في وقتٍ كانت فيه الهيمنة الأميركية قد وصلت إلى ذروتها. وردَّ الولايات المتحدة على ذلك بإطلاق الحرب العالمية على الإرهاب، وغزو أفغانستان والعراق (2001، 2003).
لقد اعتبرتُ الحركية الدينية والطائفية الهائلة انفجارًا، بينما اعتبرتُ الظواهر الجيوسياسية المتمثلة في انهيار كيانات الدول وفشلها تفككًا؛ إذ إن الثورة الإيرانية (1978 - 1979) أعلنت عن تحولٍ انفجاري في الإسلام الشيعي، غيَّر الأوضاع في إيران وباسم الدين تغييرًا جذريًا. وهذا الانفجار أو التحول (استحضار فعاليات الإمامة الغائبة)، أطلق حراكًا زاخرًا ضمن الإسلام الشيعي نال بشُواظه الجماعات الشيعية في سائر أنحاء العالم، وبخاصة لدى المجموعات الشيعية العربية في الدول المجاورة لإيران. وأعلن مقتل الرئيس أنور السادات (1981) عن انفجارٍ في الإسلام السني ناجم عن التلاقي بين «الإخوان» والسلفيات الجديدة، ما لبث أن أنتج مشروعًا ثوريًا عالميًا في الحرب الأفغانية أو الصراع على أفغانستان. هناك عمليات تحويل مفهومية قوية وعميقة حصلت عبر 6 عقودٍ في قلب الإسلامين المذكورين. وأنتجت عمليات التحويل تلك والتي قادها آيديولوجيون أصوليون شيعة وسنة، ما صار يُعرف بالصحوة، والإسلام السياسي والآخر الجهادي. وقد تحرك هذان الانفجاران وتحركت تداعياتهما ذات الأصل الواحد أو المتشابه وعلى مدى عقدين وأكثر، بشكلٍ منفصلٍ وعلى ساحاتٍ مختلفة. لكنهما اصطدما ويصطدمان في السنوات الثلاث الأخيرة، والتي سمتْها الدكتورة الكتبي: سنوات التداخُل بين الديني والطائفي والجيوسياسي. لقد بدا للوهلة الأولى، شأن كلّ انشقاقٍ ديني، أنه يتحرك في الساحة أو ضد الساحة التي انشقَّ عنها. لكننا نعلم ماذا حدث على الأرض، والذي أفضى إلى التصادُم أخيرًا. فقد أجابت الولايات المتحدة على السلفية الجهادية التي هاجمتها، ليس بحرب الأفكار كما زعم رامسفيلد؛ بل أجابت في الجيوسياسي باجتياح أفغانستان والعراق. وعندما خرجت من العراق (2010 - 2011) سلمتْه للشيعية الصحوية العاملة في إطار الحركية الدينية والطائفية الإيرانية. وبذلك ترابط ما صار يُعرفُ بالهلال الشيعي فيما بين إيران والعراق وسوريا ولبنان. فوقع الجمهور السني، ووقع رأس حربته (الانشقاق السلفي الجديد) تحت ضغوطٍ شديدةٍ، وانتهز فرصة تراخي القبضات الأمنية والعسكرية خلال ما صار يُعرفُ بالربيع العربي، فأعلن عن نفسه بطرائق صاخبة في مناطق النفوذ الإيرانية مثل العراق وسوريا. وردَّت إيران من خلال ميليشياتها وحرسها الثوري، فاصطدمت الأصوليتان، ونشبت الحرب الطائفية الطويلة الأمد والتي جرت وقائعها وتجري منذ 3 سنوات. وكما قادت إيران التدخل ضد السنة وأصولياتهم وجمهورهم؛ فإنَّ تركيا - القوة الإسلامية الأخرى في الإقليم – تدخلت هي الأخرى وبأساليب مختلفة لمواجهة التمدد الإيراني؛ وإن بأسلوب مختلفٍ عن أسلوب إيران! وبعد غياب أكثر من 3 سنواتٍ عادت الولايات المتحدة إلى المنطقة عبر سلاح طيرانها وخبرائها ولـ3 أسباب: منع الصدام الإيراني – التركي، وحماية الأكراد، ومتابعة الحملة على الأصولية الجهادية السنية التي هاجمتها عام 2001.
إنَّ معظم أحداث العقد ونصف العقد الماضي وقعت على الأرض العربية: الصراع بين الولايات المتحدة و«القاعدة» والجهاديات المتفرعة عنها - والتمدد الإيراني على حساب العرب ودولهم وكياناتهم ومجتمعاتهم - والتنافس الإيراني/ التركي - وقبل ذلك وبعده الانفجاران الأصوليان أو الانشقاقان الأصوليان السني والشيعي. وتحت وطأة هذه الأهوال سقط قُرابة نصف المليون قتيل عربي في أقل من 5 سنوات، وتهجر زُهاء الـ12 مليونًا من ديارهم بداخل الكيانات وخارجها. وكما هو ظاهرٌ للعيان فإنَّ معظم الخسائر وقعت على السوريين. والنتيجة المباشرة لهذه الأهوال سريان التفكك في أوصال عدة دولٍ عربية مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا. وباستثناء الحالة الليبية؛ فإنَّ إيران هي العلة الفاعلة والمباشرة في كل هذا الزلزال الجيوسياسي الحاصل على العرب!
يواجه العربُ إذن وفي الوقت نفسِه أهوالًا ثلاثة: الانشقاق والانفجار في الدين، والتفكك في الدول، والهجوم الإيراني الصريح، والتركي المستتر. لقد نأت دول المغرب العربي بنفسها وبخاصة أنها تواجُه مشكلاتٍ كبرى أيضًا. وتحاول مصر أن تلملم ما ضاع من أمنها ومن تماسُكها بعد زلزال «الإخوان». وما بقي للدين والدولة في المشرق العربي مَنْ يُعنى بهما غير «دائرة الاستقرار» في الجزيرة العربية، والتي تُواجه الآن الحالة اليمنية أيضًا، ومرةً أخرى مع إيران، كما في حالات العراق وسوريا ولبنان. ولذلك سارعت دول الجزيرة والأردن في مؤتمر جدَّة للتحالُف مع الولايات المتحدة من جديد (كما في حرب تحرير الكويت) من أجل ضرب الانشقاق الداعشي في سوريا والعراق.
وتريد الدكتورة الكتبي مواجهة هذه التحديات ببناء نظام إقليمي قائم على التعاون وحفظ الأمن الجماعي، والبحث عن نقاط الالتقاء. لكنها تدرك صعوبة التوصل لذلك قريبًا. وذلك لأن إيران تملك مشروعًا مذهبيًا للغلبة والامتداد. ولأنَّ تركيا لا تقبل التعاوُن لارتباطها بمشروعٍ استراتيجي آخر. ثم لأن «داعش» هو فاعل غير دولي وتستحيل ملاقاته في غير ساحة المعركة. وأخيرًا لأن الولايات المتحدة لا تريد شيئًا غير ضرب «داعش»، غير آبهةٍ بتفكك الدول، وبقتل الناس، وبالتمدد التخريبي الإيراني. وتخشى رئيسة مركز الإمارات بسبب الضغوط القاتلة على الناس أن يصبح هؤلاء حواضن لـ«داعش» وأمثالها، وأن يتسبب إحباطهم بإنتاج دواعش أخرى!
حضر ملتقى أبوظبي الاستراتيجي الأول مئات الباحثين من مراكز الدراسات الاستراتيجية العالمية والعربية، ومن أساتذة الجامعات، والدبلوماسيين السابقين، وعشرات من صنَّاع القرار ومن المشاركين في الملتقى بما في ذلك إيران وتركيا والولايات المتحدة وروسيا والصين. وما بقيت مشلكةٌ إلا وعولجت من منظور التأثير على أمن الخليج، ومن منظور تحول «دائرة الاستقرار» الخليجية إلى عنصرٍ فاعلٍ في القرار بشأن الاستقرار، وبشأن المستقبل. بيد أن كلَّ طرفٍ جاء إلى المتلقي يملك رأيًا فيما تريده بلاده. وهؤلاء جميعًا يعتقدون أنَّ الوقت وقت حشد البحوث والدراسات ليكون جاهزًا عندما تسألُهُ الإدارة أو إذا كان ذلك متاحًا! وللوهلة الأولى يعتبر كلٌّ منهم أنَّ عليه التشبُّث بموقف دولته أو مؤسسته إلى أن يحين أوان التفاوض! أما نحن العرب، أصحاب قرارٍ وباحثين، فنعيش أصعب الأوقات وأخطرها وسط الدم والخراب تحدونا إرادة البقاء وشجاعة العربية والعروبة.