انتقل اهتمام «حزب الله» منذ اندلاع الثورة السورية إلى سوريا التي تحوّلت أولويته القصوى، ما دفعه إلى استنساخ آلية العمل التي اتبعتها ١٤ آذار في العام ٢٠٠٥ بالتبريد مع «الحزب» مقابل التصعيد مع «النظام»، فبرّد في لبنان وانغمس في سوريا. التسوية التي قامت على أساسها الحكومة كانت من طبيعة أمنية لا سياسية، حيث تمّ الاتفاق على تجميد الملفات الخلافية المتصلة بسلاح «حزب الله» وقتاله في سوريا والمحكمة الدولية، والإعلان عن أقصى التعاون في المجال الأمني على أثر التفجيرات الإرهابية التي ضربت لبنان.

وقد نجحت الحكومة في تجاوز قطوع الفراغ الرئاسي وما رافقه من كلام حول نيّة بعض الأطراف الاستقالة للضغط من أجل التسريع في انتخاب رئيسٍ جديد، كما نجحت بوضعِ آليةِ عمل لإدارة مرحلة الفراغ حكومياً، ونجحت أيضاً في تجاوز قطوع التعيينات، فضلاً عن أنها لم تهتز بفعل الحراك النقابي المتصل بسلسلة الرتب والرواتب، وتجاوزت التباينات المتعلّقة بعرسال وملف العسكريين المخطوفين.

وقد أضافت الحكومة أخيراً إنجازاً إضافياً يتمثل بالتوافق الديبلوماسي غير المباشر على إدارة لبنان مسألة مشاركته في التحالف الدولي، وهذا التوافق يشكّل نقلة نوعية من الشراكة الأمنية إلى الشراكة الديبلوماسية التي ترضي ١٤ آذار من زاوية جعل لبنان جزءاً لا يتجزّأ من الشرعيَتين العربية والدولية، وترضي ٨ آذار من زاوية التخلص من الإرهابيين وربط النزاع مع التحالف الدولي في آن معاً، خصوصاً لجهة التحفّظ على توسيع نطاق الضربات لتشمل النظام السوري.

فالتوافق اللبناني-اللبناني على المستويَين الأمني والديبلوماسي ما كان ليحصل لولا وجود مصلحة مشترَكة بين طرفَي النزاع على حفظ الاستقرار والمشاركة غير المباشرة في التحالف واستمرار الحكومة. وإذا كانت أولوية ١٤ آذار الاستقرار، فإنّ أولوية «حزب الله» لا تختلف عن أولوية ١٤ في هذه المرحلة، ولا بل الحزب على استعداد لتقديم أيّ تنازل يؤدّي إلى ترييحه في لبنان.

وقد أثبتت التطوّرات والأحداث أنه في اللحظة التي يشعر فيها «حزب الله» بأنّ الأمور تتجّه للخروج عن السيطرة يتدخل لتصويب المسار وإعادة الوضع إلى نصابه، وتجلّى هذا الأمر أخيراً في منع تفاقم ظاهرة الخطف والخطف المضاد التي كاد يؤدي استمرارها إلى الانزلاق نحو الحرب الأهلية، كما شكل خطاب السيد حسن نصرالله تبريداً للرؤوس الحامية التي تدعو إلى الحسم في جرود عرسال ورفض أيّ نوع من أنواع المبادَلة.

وهذا السلوك الذي ينتهجه «حزب الله» في المحافظة على استقرار لبنان لا يُفترض تصويره واعتباره تطوّراً في أدائه لناحية اقترابه من اللبننة وتحوّله إلى أمّ الصبي أيضاً، لأنّ المسألة بالنسبة إليه مسألة أولويات تتصل بأجندته لا بأولوية لبنان، وقتاله في سوريا يتصدّر العناوين الأخرى كلها في هذه الأجندة، ولكن في اللحظة التي تنتهي مهمته في سوريا سيعود إلى التصعيد وهزّ الاستقرار في لبنان، ويخطئ كلّ مَن يتوهّم غير ذلك.

وفي هذا السياق لا بأس من التقاطع مع «حزب الله» على الاستقرار الذي هو هدفٌ من أهداف ١٤ آذار، ولكنّ التقاطع لا يعني تنفيذ أجندة الحزب في عرسال وملف العسكريين المخطوفين والملفات السياسية الأخرى، كما لا يعني النوم على حرير بالنسبة إلى سلوكه الذي سينقلب رأساً على عقب لحظةَ عودته من سوريا إلى لبنان.

فأولوية «حزب الله» كانت وستبقى سلاحه، وأولوية ١٤ آذار كانت ويجب أن تبقى رفض سلاح الحزب وأيّ سلاح خارج الدولة، وبقدر ما إنّ اللحظة الدولية-الإقليمية اليوم مؤاتية لإثارة القضية اللبنانية، فهي تشكل خطورة عليها، لأنّ مرحلة الحسم والتسويات بدأت، وعدم جهوزية المفاوض اللبناني السيادي ستجعل هذه القضية عرضة للمساومات والتنازلات والتسويات المجحفة بحق لبنان السيادة والاستقلال.

وليس من المبالغة القول إنّ مصير لبنان قد يتقرّر في هذه المرحلة التي تستوجب العودة إلى تصوّر الشهيد محمد شطح بطرح القضية اللبنانية في عواصم القرار بغيةَ تحريكها بالتوازي مع المفاوضات الغربية-الإيرانية، ولكن مع التحريك الحاصل اليوم بفعل التحالف الفضفاض ضدّ الإرهاب وما قد ينتج عنه من تسويات وحلول، يتحوّل التحرّك باتجاه هذه العواصم واجباً وطنياً، قطعاً للطريق على أيّ تسوية في لبنان تبقي عاملَي الأزمة والانفجار قائمين، لأنّ أيّ حلّ لا يعيد للدولة ما للدولة يعني أنّ السلام في لبنان سيبقى موقتاً والاستقرار مموّهاً.